(كم نحتاج اليوم إلى أبو بكر السقاف!)
رأيته البارحة في منامي، كما لو أنه لم يمت. كان هادئا، مبتسما، كما لو أنه يقول: “لا تيأسوا من الفكرة، فالفكرة لا تُهزم أبدا.”
وفي زمن الارتباك الفكري وانهيار البوصلة الأخلاقية، كان أبو بكر السقاف يقف شامخا، لا كأكاديمي اعتيادي ولا كمثقف عابر، بل كموقف.
رجلٌ نحت بصبر الفلاسفة معالم ضمير يمني حي، بل ظل يقاوم حتى الرمق الأخير، لا يهادن، لا يساوم، لا يُغمض عينيه عن جرح، ولا يصمت أمام قبح مستشر باسم الدين أو الوطن أو الوحدة.
ولد السقاف في إثيوبيا عام 1935، لكنه لم يكن غريبا عن اليمن يوما. عاد إليها صغيرا، وتشكل وعيه باكرا بين محنة الاحتلال البريطاني في الجنوب وحكم الإمامة الكهنوتي في الشمال.
عندما كان في سن العاشرة، عاد بمفرده إلى منطقة الوهط في محافظة لحج بجنوب اليمن.و هناك التحق بالمدرسة الجعفرية، فيما بدأت رحلته الدراسية والفكرية.و تلك الفترة تشكلت شخصية السقاف وأثرت في رؤيته للعالم.
في عام 1953، ذهب إلى القاهرة ضمن بعثة للاتحاد اليمني في عدن، بعد ترشيح من نادي اللشباب اللحجي.
و خلال فترة دراسته هناك، انخرط في العمل الوطني الطلابي، وأسس مع زملائه مثل عبد الكريم الإرياني ومحمد عبد الوهاب جباري وعبد الله حسن العالم ومحمد عبد الولي وعمر الجاوي أول مؤتمر للطلاب اليمنيين في القاهرة عام 1956. كان هذا المؤتمر نقطة انطلاق للعديد من النضالات ضد حكم الإمامة في صنعاء والاستعمار البريطاني في عدن.
لكن بسبب الاستقطابات السياسية بين التيارات العربية في الجامعات، فُصل السقاف مع عدد من الطلاب اليمنيين من القاهرة وتوجهوا إلى موسكو لإكمال دراستهم. وفي موسكو، تخصص السقاف في الفلسفة الإسلامية وفلسفة المعتزلة، فيما أثرت هذه المرحلة بشكل كبير على فكره ومنهجه الأكاديمي.
وهناك، بدأ مشروعه التنويري الذي لم يكن مجرد اشتباك مع السلطة، بل تمرينا دائما على التفكير الحر والمساءلة العميقة لكل ما يُقدم كمسلمات.
و…
بعد عودته إلى اليمن، عمل السقاف كأستاذ للفلسفة في جامعة صنعاء لأكثر من أربعة عقود. وخلال تلك الفترة، كان معروفا بانتقاده الشديد للسياسات الحكومية.
و في عام 1988، أصدر أول كتبه بعنوان “الجمهورية بين السلطنة والقبيلة في اليمن الشمالي”تحت اسم مستعار، محمد عبد السلام.
هذا الكتاب كان بداية سلسلة من الأعمال التي انتقد فيها النظام السياسي في اليمن.
بمعنى أدق لم يكن السقاف مجرد أكاديمي في قسم الفلسفة بجامعة صنعاء، بل كان جامعة قائمة بذاتها.
فيما الآلاف من طلابه لم ينسوا كيف علمهم أن يفكروا، لا أن يتبعوا، أن يخاصموا الجهل لا أن يبرروه، وأن يكونوا أحرارا في زمن العبودية الطوعية.
في الحقيقة لقد كان الدكتور الذي نحجُّ إلى محاضراته شغفا لا إجبارا. بل كان “معلم السحر”، كما وصفه أحدهم ذات نبوءة.
ولعل أكثر ما يميز الرجل أنه لم يفصل بين الفكر والموقف. بين الفلسفة والميدان.
كتب عن المعتزلة كما كتب عن الحرب، عن ابن تيمية.. كما كتب عن الاحتلال الداخلي في الجنوب، وعن نرجسية الزعيم كما كتب عن حقوق البسطاء.
كذلك ظل وفيا لفكره، لا تابعا لنظام، ولا موظفا لدى سلطة.
وطبعا كان اشتراكيا، لكنه لم يكرس أيقونات، ولم يمجد الرموز لمجرد انتمائها، بل نقدها بصرامة الفيلسوف وإنصاف المؤرخ.
وحين وصف حرب 1994 بـ”الاحتلال الداخلي”، كان ذلك جريمة فكرية لا تغتفر في مناخ النفاق القومي الزائف. لذلك ضُرب، خُطف، وُضع تحت الإقامة الجبرية. كما اقتُحم بيته، وسُرقت مخطوطاته، وقُطعت خدماته، وقُطعت مرتباته.
لكنه لم يصرخ من الألم، بل واصل الكتابة بالصوت ذاته: ذلك الذي لا يرتجف أمام عنف أو تكفير.
فهو لا يساوم ولا يعرف في الغالب المنطقة الوسطى (الرمادية).
و…
في مقالاته الأخيرة قبل مغادرته صنعاء عاصمة اليمنيين التاريخية المخطوفة اليوم :
لطالما وصف الميلشيات الحوثية
بـ ” الاحتلال الداخلي”.
ولقد لقب الدكتور أبوبكر السقاف ب”أرسطو اليمن”.
وبالتأكيد لم يعرف الدكتور التردد والمساومة عن الانحياز للحقيقة والتصدي للزيف والاباطيل والكهنوتيه الحوثية العنصرية..بمعنى آخر كان ضد “المركزية الإمامية”.
..في أبريل 2015، ومع تدهور الأوضاع في اليمن وسقوط صنعاء في يد ميليشيات الحوثي، غادر السقاف بمفرده اليمن على متن طائرة إجلاء روسية متجهة إلى موسكو.
ومن هناك، واصل نضاله الفكري والحقوقي،
سافر إلى موسكو في خريف العمر، هاربا لا من الموت، بل من وطن لم يعد يحتمل المفكرين.
كانت غرفته في موسكو أشبه بخلية فكرية صغيرة، فيها يعيد إنتاج تأملاته في شؤون اليمن والعالم، حتى أسلم الروح هناك في 13 ديسمبر 2022، بصمت، ومنفى، وغياب مدوّ.
وهكذا…
مات رجلٌ لا يليق به الموت، أو لا يليق به هذا الصمت الذي لف رحيله. لم تمشي خلفه مواكب، لم تلقى خطب رنانة، لم يُنشر نعي رسمي جدير بحجم فكره.
لكنه ظل أكبر من كل بروتوكول. كان احتجاجا حيا حتى بعد موته، وكأن وفاته كانت النص الأخير في دفتر المقاومة.
ولذلك خسرت اليمن، بل خسر العرب، آخر الفلاسفة العضويين، أولئك الذين يرون الكتابة فعلا ثوريا لا ترفا أكاديميا.
بل خسرنا ناقدا كان يرى في “الدولة” مشروعا أخلاقيا لا مجرد بنية إدارية، وكان يفضح كيف تحولت الوحدة إلى قيد، والدين إلى وسيلة تبرير للاستبداد.
ولكم نحتاج اليوم إلى أبو بكر السقاف!.
ففي زمن تتقزم فيه الجامعات إلى مقاعد امتحان، وتتحول النخب إلى أدوات في يد الساسة، نفتقد هذا الصوت الذي كان يقول الحقيقة لا ليُصفق له، بل ليرتجف بها الضمير العام. نفتقد من يجعل الفلسفة فعلا ضرورية، لا رفاهية فكرية.
و…
لكن كأنه بيننا، صوته ما زال يتردد كصدى في العقول التي علمها الشك لا اليقين، والبحث لا التسليم. بل كأنه يمشي بيننا بفكرٍ لا يموت، وبأسئلةٍ تفتح الدروب نحو الحرية.
ففي زمن اختنق بالصمت، ما زال حضوره يوقظ الضمير ويشعل شمعة في ليل الاستبداد.
..بل لم يمت السقاف.. لقد توزع فينا فقط.
رحمة لا تنتهي.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news