كان (محمد عمر بغوي) يعمل في النوبة المسائية يوم 17 أبريل/ نيسان في ميناء رأس عيسى بمحافظة الحديدة شمال غربي اليمن، عندما بدأت القوات الأميركية قصفها.
وكان السيد بغوي، البالغ من العمر 45 عاماً، يشغل منصب مدير لإحدى الإدارات المسؤولة عن تعبئة أسطوانات غاز الطهي. وقد كان من بين ما لا يقل عن 74 شخصاً قُتلوا في الضربة الجوية، ما يجعلها من بين أعنف الهجمات التي شنتها الولايات المتحدة على اليمن.
وقالت القيادة المركزية الأميركية إنها استهدفت الميناء بهدف "إضعاف مصدر القوة الاقتصادية" لجماعة الحوثيين المدعومة من إيران، والتي تسيطر على معظم مناطق شمال اليمن. إلا أن عائلة بغوي أكدت أنه لم يكن سوى مدنيٍّ يسعى لكسب قوته بكرامة.
وقال شقيقه، (حسن عمر بغوي) : "محمد ورفاقه لم يرتكبوا أي خطأ. كانوا فقط يؤدون عملهم لتأمين لقمة العيش لهم ولعائلاتهم، وسط ظروف معيشية شديدة القسوة."
وتشن جماعة الحوثي هجمات بالطائرات المُسيّرة والصواريخ على إسرائيل، تضامناً مع حركة حماس بعد الهجوم الذي نفذته الأخيرة ضد إسرائيل في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وللضغط على إسرائيل بسبب حملتها العسكرية في غزة. كما استهدفت الجماعة سُفناً تجارية في البحر الأحمر، وهو ممر تجاري حيوي.
و أدت تلك الهجمات إلى ردود فعل انتقامية من الولايات المتحدة وإسرائيل، اللتان تشنان منذ شهرين ضرباتٍ جوية منتظمة على اليمن. وتقول الحكومتان الأميركية والإسرائيلية إن الغارات تستهدف قادة ومواقع تابعة للحوثيين، لكنها أسفرت أيضاً عن مقتل العديد من المدنيين، وتدمير بنى تحتية حيوية، وزيادة حالة اليأس في أفقر دول الشرق الأوسط.
وقبل أن يعلن الرئيس ترامب هذا الشهر أن الولايات المتحدة توصلت إلى وقف لإطلاق النار مع الجماعة، كانت إدارته قد أوضحت أن هدفها الأساسي هو استعادة حرية الملاحة في البحر الأحمر. وعند إعلان الهدنة، قال ترامب إن الحوثيين قد "رضخوا".
مع ذلك، واصل الحوثيون استهداف إسرائيل، حيث أطلقوا صواريخ سقط بعضها قرب مطار بن غوريون، بالقرب من تل أبيب، ما أدى إلى إطلاق صفارات الإنذار ولجوء ملايين المدنيين إلى الملاجئ. وردّت إسرائيل بمزيدٍ من الضربات، وسط تصعيدٍ متبادل لا تظهر بوادر على انتهائه.
ويرى محللون أن هذه الضربات لا تزيد الوضع إلا سوءاً بالنسبة للمدنيين اليمنيين، الذين يعيش معظمهم في مناطق خاضعة لسيطرة الحوثيين، وقد عانوا أساساً من عقود من الحروب قبل بدء الهجمات الأميركية والإسرائيلية. ويعارض الحوثيون كلاً من الولايات المتحدة وإسرائيل، ويعتبرون أنفسهم جزءاً من "محور المقاومة" بقيادة إيران، إلى جانب حماس في غزة وحزب الله في لبنان.
لكن وعلى الرغم من شهور القصف، شكك بعض المحللين والمسؤولين في مدى نجاح الولايات المتحدة وإسرائيل في إضعاف القدرات العسكرية للحوثيين. فقد شنت إدارة ترامب أكثر من ألف غارة جوية كلّفت مليارات الدولارات، ودمرت أسلحة ومعدات حوثية، إلا أن وكالات الاستخبارات الأميركية أكدت أن الجماعة قادرة بسهولة على إعادة بناء قدراتها.
قالت (ندوة الدوسري)، وهي محللة متخصصة في الشأن اليمني في معهد الشرق الأوسط بواشنطن:
"لقد تسببت الضربات الجوية بالفعل في أزمة وقود، ستؤدي بدورها إلى ارتفاع أسعار السلع والخدمات الأساسية في بلدٍ يكافح فيه معظم السكان لتأمين قوت يومهم."
وأضافت: "حتى وإن تباطأت عملياتهم مؤقتاً، فإنهم سيعيدون تنظيم صفوفهم وبناء قدراتهم، وسيعودون أقوى."
ويقول مدنيون وعاملون في مجال الإغاثة إن حملات القصف فاقمت من تدهور الوضع الإنساني، الذي كان في الأصل بالغ السوء.
و في عام 2014، استغل الحوثيون فترة من الاضطراب السياسي للسيطرة على العاصمة صنعاء. ورداً على ذلك، أطلقت تحالف عسكري تقوده السعودية، وبدعم من الولايات المتحدة بالسلاح والدعم اللوجستي، حملة قصف جوي في عام 2015 بهدف إعادة الحكومة المعترف بها دولياً إلى السلطة. وقد فرض التحالف حصاراً جوياً وبحرياً فعلياً، أعاق تدفق الغذاء والسلع الأساسية إلى المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين. غير أن التدخل العسكري أخفق، وأبقى الحوثيين مسيطرين على شمال البلاد. وأسفر الصراع الأهلي اللاحق عن مقتل مئات الآلاف من المدنيين اليمنيين، وتسبب في واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم.
وفي إحاطة لمجلس الأمن الدولي الأسبوع الماضي، حذر مسؤولون إنسانيون من أن اليمن لا يزال يواجه تحدياتٍ خطيرة. وقال (توم فليتشر)، منسق الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة:
"نصف أطفال اليمن، أي نحو 2.3 مليون طفل، يعانون من سوء التغذية، من بينهم 600 ألف في حالات حرجة."
وأشار إلى أن 2000 برنامج تغذية اضطر إلى الإغلاق بسبب نقص التمويل.
وقد أسفرت الضربات الجوية الإسرائيلية على مدن يمنية هذا الشهر، من بينها مطار صنعاء الدولي، عن أضرار تقدّر بنحو 500 مليون دولار، وفقاً لمدير المطار، كما تم تعليق الرحلات الجوية لأكثر من أسبوع. وأعلنت إسرائيل أن تلك الضربات جاءت رداً على صاروخ حوثي سقط قرب مطار بن غوريون.
لكن مطار صنعاء يُستخدم بشكل رئيسي لأغراض السفر المدني، ويُعد من بين الطرق القليلة المتبقية التي تتيح لليمنيين الوصول إلى العلاج الطبي الطارئ في الخارج.
وقال وسيم الحيدري)، موظف حكومي يبلغ من العمر 42 عاماً ويقيم في صنعاء، إن إغلاق المطار سابقاً بسبب الغارات الجوية تسبب في معاناة مالية ونفسية شديدة لعائلات مثل عائلته، عندما تكون هناك حاجة ماسة للعلاج الطارئ في الخارج.
وأضاف: "اضطرت عائلتنا إلى بيع ممتلكات ثمينة واقتراض المال لتغطية نفقات سفر شقيقي عبر مطار عدن إلى القاهرة من أجل إجراء عملية زراعة قرنية."
وفي ظل إغلاق مطار صنعاء، لا يبقى أمام المرضى الذين يعانون من حالات حرجة سوى تحمّل رحلة برّية مرهقة تستغرق ساعات طويلة إلى عدن أو سيئون في جنوب اليمن، من أجل الحصول على فرصة للعلاج خارج البلاد.
أما مدينة الحُديدة الساحلية غرب اليمن، والتي تقول إسرائيل إنها تشكّل مساراً حيوياً لإمدادات الحوثيين، فقد كانت من أكثر المناطق تضرراً من الضربات الأميركية والإسرائيلية خلال العام الماضي.
وقد تحوّلت موانئها وطرقها، التي تمثّل شرايين أساسية لدخول الغذاء والدواء إلى البلاد، إلى أنقاض.
حتى السكان في المناطق الجنوبية من اليمن، التي تخضع لسيطرة الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، يقولون إنهم يتأثرون بالأزمة الحالية، رغم أنهم لا يعيشون في مناطق تتعرض للقصف بشكل منتظم.
حيث يعيش (صالح رمضان)، البالغ من العمر 49 عاماً، في منزل متداعٍ بمدينة المكلا جنوب البلاد، و ينام أطفاله في غرفة شبه مظلمة. لا يوجد أثاث، ولا طاولة لتناول الطعام، ولا خزائن لحفظ الملابس.
وقال: "في السابق، كنا نستطيع شراء اللحم والدجاج، وحتى الاحتفال بالعيد باللحم والملابس الجديدة"، في إشارة إلى عيد الفطر الذي يُحتفل به في نهاية شهر رمضان. أما اليوم، فكثيراً ما تضطر العائلة إلى الاستغناء عن بعض الوجبات.
وقد اضطر محمد، الابن الأكبر للسيد رمضان، البالغ من العمر 20 عاماً، إلى ترك الدراسة لمساعدة والده في توصيل أسطوانات غاز الطهي. وعندما يمرض الأطفال، تعتمد العائلة غالباً على العلاجات العشبية، بسبب عدم قدرتها على شراء الأدوية التي باتت نادرة أو باهظة الثمن.
وقد زاد قرار الرئيس ترامب بتقليص الإنفاق الأميركي على المساعدات الخارجية من تعقيد الوضع. فقد اضطرت وكالات الإغاثة إلى تقليص عمليات توزيع الغذاء، بينما حذر برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة من أن برامج تغذية الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية ممن هم دون سن الخامسة قد تتوقف في أقرب وقت هذا الشهر ما لم يتم توفير تمويل جديد.
كما أن قرار إدارة ترامب بإعادة تصنيف الحوثيين كمنظمة إرهابية زاد من تعقيد جهود إيصال المساعدات الإنسانية، حيث أصبحت البنوك الدولية تتخوف من مخالفة العقوبات الأميركية، وتتردد في تنفيذ أي تحويلات مالية تتعلق باليمن. ومع تصاعد التوترات الجيوسياسية واستنزاف الجهات المانحة، أصبح تأمين المساعدات أكثر صعوبة من أي وقت مضى.
و قد ارتفعت تكاليف الغذاء والمواصلات بشكل حاد، وأفاد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية بأن العديد من الأسر باتت تنفق ما يصل إلى 60% من دخلها على الغذاء فقط.
وبالنسبة لـ (سارة محمد)، وهي أرملة وأم لثلاثة أطفال تعيش في مدينة المكلا، فإن الصراع من أجل البقاء لا يتوقف.
تسكن سارة في منزل مؤقت مع والدتها المصابة بمرض نفسي ووالدها الكفيف، وتقول إن العائلة تعتمد على دخل أختها التي تعمل خادمة منزلية، إضافة إلى معاش والدها التقاعدي البسيط.
وتقول:
"لا نستطيع تحمّل كلفة الطعام. أختي تركت الجامعة لتعمل في ورديتين. رغم تعاني من مشاكل في القلب، لكنها لا تستطيع دفع تكاليف العلاج. أطفالي يأكلون أرزاً مسلوقاً فقط. نحن نعيش على الإيمان بالله."
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news