للإنقاذ أم للترميم السياسي؟

     
البلاد الآن             عدد المشاهدات : 136 مشاهده       تفاصيل الخبر       الصحافة نت
للإنقاذ أم للترميم السياسي؟

د. محمد الحميدي

في لحظات الانهيار الوجودي، لا تقاس الدول بمظاهر السلطة، إنما بقدرتها على البقاء كفكرة قابلة للتصور. وحين تُستنزف المعاني الكبرى، وتتحول المؤسسات إلى هياكل خاوية، تتقدم الأسئلة العميقة على الإجابات الجاهزة: ما الذي يتبقى من الدولة حين تفقد قدرتها على تنظيم ذاتها؟ وما الذي يُنتشل من العقد الوطني حين يغدو الحكم إدارة للفراغ وفقدانًا للمعنى؟

اليمن ليست على مشارف أزمة، إنما في صميمها؛ حيث تنهار مقومات السيادة، ويتفسخ نسيج الشرعية، ويغدو الإيمان بالمستقبل رفاهًا لا يطيقه المرهقون من خيبات الحاضر. ما يحدث لا يشي بضعف الأداء فحسب، وإنما يكشف تصدع المفهوم ذاته، مفهوم السلطة، والانتماء، والدولة ككل عضوي قابل لإعادة التشكل وفق منطق الضرورة.

تسمية رئيس وزراء جديد في هذا السياق ليست إجراءً إداريا لترقيع المشهد، وإنما لحظة امتحان لمشروع وطني مطلوب منه أن يعيد تعريف الممكن في ظل سطوة المهددات. فالمأزق لا يكمن في غياب الكفاءة وحدها فحسب، بل في تغييب الرؤية، وفي الحاجة إلى وعي سياسي يستعيد جوهر الجمهورية من تحت ركام التجربة المنهكة.

وفي هذا الاشتباك مع سؤال الدولة، لا يأتي تكليف سالم صالح بن بريك كرئيس لمجلس الوزراء استجابة لإرهاق عابر، وإنما كرهان يتقاطع فيه المأزق مع الأفق، وتُختبر فيه فكرة الحكم على محك الفعل لا على هوامش التمني. لا يقف على رأس حكومة تملك أدوات الاستقرار، إنما في صميم معادلة مأزومة تُنتج الأسئلة أكثر مما تُنتج الإجابات، كيف تُستعاد الدولة حين تنحسر هيبتها في مناطق سلطتها المفترضة؟ وكيف يُدار الخراب حين يتحول إلى نظام شبه مستقر، يلتهم مقومات النجاة قطعة بعد أخرى دون أن يهدد بالسقوط؟

التحدي لا يكمن في الفوضى ذاتها، وإنما في البنية التي تنتجها وتعيد تدويرها في شكل عجز مؤسسي دائم. فالدولة تبدو كمن يتحرك على ساقين من وهم وسؤال! وهم السيطرة، وسؤال الجدوى. والاقتصاد الذي يُفترض أن يكون أداة ضبط واستقرار، تحول إلى ساحة صراع مفتوحة، تتوزع فيها الموارد كغنائم ما بعد الحرب، وتُستهلك فيها الثقة العامة كما تُستهلك العملة في سوق بلا مرجعية.

تدهور الريال اليمني ليس مجرد ظاهرة نقدية، وإنما عنوان لانهيار المعنى السيادي، وتمزق العلاقة بين القيمة والسلطة، وبين السوق والدولة. وكل تراجع في سعره يكشف اتساع الفجوة بين المواطن والكيان الذي يُفترض أنه يحميه. فلا ينهار الريال وحده، بل تنهار معه رمزية الدولة وقدرتها على الوفاء بحدها الأدنى من المسؤولية.

ويزداد التعقيد حين تكون المناطق الواقعة تحت الشرعية هي المعنية بالإنقاذ، بينما تعاني من موارد شحيحة، وتنازع في القرار، وتضارب في الأولويات. فالتشظي داخل مؤسساتها لا يُنتج إلا مزيدًا من الإرباك. وأي إصلاح اقتصادي لا يستند إلى مركزية قرار مالي واضحة وكسر لدوائر العبث، لن يكون إلا تكرارًا لتجارب بائسة.

ولا يجوز تكرار أخطاء بعض السابقين ممن تعاملوا مع الدولة كحقل للترضية السياسية، لا كمشروع عقلاني لصوغ التوازن بين القوة والحق. فالحكومة، حين تتنازل عن معيار الكفاءة وتستسلم لمعادلات المحاصصة، تزرع بذور فشلها في نسيج قرارها. ومن حسن الطالع أن بن بريك ينتمي إلى خلفية مالية وإدارية قد تمكنه من إخضاع العاطفة السياسية إلى منطق التكنوقراط الواعي، فيعيد تعريف الوظيفة العمومية كجهاز خدمة لا كغنيمة حرب.

في المقابل، هناك مشروع نقيض لا يعيش على فشل الشرعية فحسب، بل يقتات على انهيارها، مشروع الحوثي الطائفي المدعوم من إيران، الذي لا يعرض نفسه كقوة أمر واقع فقط، وإنما كبديل لجوهر الدولة. مشروع يعيد صياغة وعي اليمنيين ويقدم رواية مغلقة تستند إلى الحق الإلهي وولاية السلالة، وتسعى إلى محو كل ما يمت للجمهورية والمواطنة بصلة.

مواجهة هذا المشروع لا تكتفي بالجانب العسكري رغم أهميته، إنما يتطلب استراتيجية أعمق تُجرد الحوثي من قدرته على تزييف المعنى وتعيد إنتاج سردية وطنية عقلانية قادرة على تفكيك البنية الثقافية والسياسية التي يتكئ عليها. فالمعركة مع هذا المشروع شاملة، تبدأ من المعرفة، وتمر بالعدالة، وتنتهي بإعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمواطن.

وهذا يستدعي مراجعة نقدية لأخطاء المرحلة، لا بهدف تصفية الحساب، وإنما لصياغة وعي جديد يتجاوز الإدمان على الإنكار. فالزمن لا يرحم التكرار، والتاريخ لا يعيد منح الفرص لمن يستهلكها في اللهاث وراء ما ثبت فشله. المأزق ليس في قلة الإمكانيات فقط، بل في إعادة إنتاج الخلل بمنهجية تضمن استمراره.

لذا فإن الفرصة أمام رئيس الحكومة الجديد لا تكمن في الإنجاز السريع، وإنما في كسر الدائرة المغلقة ذاتها. في الانتقال من إدارة الأزمة إلى إعادة بناء شروط الخروج منها. وفي إعادة ترتيب علاقة الدولة بذاتها، لا بوصفها إدارة، وإنما بوصفها إطارًا جامعًا للثقة والشرعية والمعنى العام.

في وطن جُرح طويلًا وكاد يفقد صلته بمستقبله، قد يُعاد ترميم المعنى من موقع الفعل السياسي حين يُدار بضمير حي ووعي تاريخي وعزم لا ترعبه تركة الخراب، بل تستفزه احتمالات البناء من بين أنقاضها.

تعليقات الفيس بوك

شارك

Google Newsstand تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news


تابعنا على يوتيوب

تابعنا على تويتر

تابعنا على تيليجرام

تابعنا على فيسبوك

شاهد بالصورة ..شاب قدم شكوى بعصابة ابتزاز قامت باغتصابه وتصويره بوضع مخل

نيوز لاين | 449 قراءة 

اليمن يستقبل أكبر سفينة تجارية للمرة الأولى منذ 14 عاماً

يمن فويس | 303 قراءة 

اشتباكات قبلية دامية في البيضاء تخلّف أكثر من 44 قتيلاً وجريحاً وسط تقاعس حوثي عن التدخل

بوابتي | 287 قراءة 

تعزيزات قبلية كبيرة تصل العكدة في حضرموت لمواجهة التمدد العسكري الإماراتي

موقع الجنوب اليمني | 285 قراءة 

القرود ترتكب جريمة مروعة في البيضاء

كريتر سكاي | 275 قراءة 

عاجل : تحويل 7 مشجعين إلى الجهات المختصة في السعودية بسبب لافتة الديربي

العين الثالثة | 180 قراءة 

صحابي يمني يخدع أبوبكر الصديق بحيلة ماكرة أضحكت الرسول

نيوز لاين | 176 قراءة 

قرار رئاسي بإعادة تموضع القوات العسكرية في سواحل لحج

الوطن العدنية | 162 قراءة 

صراع السيطرة يتجدد.. "درع الوطن" و"العمالقة" في مواجهة مفتوحة

نيوز لاين | 158 قراءة 

وفاة شاب إثر لدغة أفعى سامة تُعرف باسم ”الأسود الخبيث” في محافظة إب

المشهد اليمني | 148 قراءة