للإنقاذ أم للترميم السياسي؟

     
البلاد الآن             عدد المشاهدات : 62 مشاهده       تفاصيل الخبر       الصحافة نت
للإنقاذ أم للترميم السياسي؟

د. محمد الحميدي

في لحظات الانهيار الوجودي، لا تقاس الدول بمظاهر السلطة، إنما بقدرتها على البقاء كفكرة قابلة للتصور. وحين تُستنزف المعاني الكبرى، وتتحول المؤسسات إلى هياكل خاوية، تتقدم الأسئلة العميقة على الإجابات الجاهزة: ما الذي يتبقى من الدولة حين تفقد قدرتها على تنظيم ذاتها؟ وما الذي يُنتشل من العقد الوطني حين يغدو الحكم إدارة للفراغ وفقدانًا للمعنى؟

اليمن ليست على مشارف أزمة، إنما في صميمها؛ حيث تنهار مقومات السيادة، ويتفسخ نسيج الشرعية، ويغدو الإيمان بالمستقبل رفاهًا لا يطيقه المرهقون من خيبات الحاضر. ما يحدث لا يشي بضعف الأداء فحسب، وإنما يكشف تصدع المفهوم ذاته، مفهوم السلطة، والانتماء، والدولة ككل عضوي قابل لإعادة التشكل وفق منطق الضرورة.

تسمية رئيس وزراء جديد في هذا السياق ليست إجراءً إداريا لترقيع المشهد، وإنما لحظة امتحان لمشروع وطني مطلوب منه أن يعيد تعريف الممكن في ظل سطوة المهددات. فالمأزق لا يكمن في غياب الكفاءة وحدها فحسب، بل في تغييب الرؤية، وفي الحاجة إلى وعي سياسي يستعيد جوهر الجمهورية من تحت ركام التجربة المنهكة.

وفي هذا الاشتباك مع سؤال الدولة، لا يأتي تكليف سالم صالح بن بريك كرئيس لمجلس الوزراء استجابة لإرهاق عابر، وإنما كرهان يتقاطع فيه المأزق مع الأفق، وتُختبر فيه فكرة الحكم على محك الفعل لا على هوامش التمني. لا يقف على رأس حكومة تملك أدوات الاستقرار، إنما في صميم معادلة مأزومة تُنتج الأسئلة أكثر مما تُنتج الإجابات، كيف تُستعاد الدولة حين تنحسر هيبتها في مناطق سلطتها المفترضة؟ وكيف يُدار الخراب حين يتحول إلى نظام شبه مستقر، يلتهم مقومات النجاة قطعة بعد أخرى دون أن يهدد بالسقوط؟

التحدي لا يكمن في الفوضى ذاتها، وإنما في البنية التي تنتجها وتعيد تدويرها في شكل عجز مؤسسي دائم. فالدولة تبدو كمن يتحرك على ساقين من وهم وسؤال! وهم السيطرة، وسؤال الجدوى. والاقتصاد الذي يُفترض أن يكون أداة ضبط واستقرار، تحول إلى ساحة صراع مفتوحة، تتوزع فيها الموارد كغنائم ما بعد الحرب، وتُستهلك فيها الثقة العامة كما تُستهلك العملة في سوق بلا مرجعية.

تدهور الريال اليمني ليس مجرد ظاهرة نقدية، وإنما عنوان لانهيار المعنى السيادي، وتمزق العلاقة بين القيمة والسلطة، وبين السوق والدولة. وكل تراجع في سعره يكشف اتساع الفجوة بين المواطن والكيان الذي يُفترض أنه يحميه. فلا ينهار الريال وحده، بل تنهار معه رمزية الدولة وقدرتها على الوفاء بحدها الأدنى من المسؤولية.

ويزداد التعقيد حين تكون المناطق الواقعة تحت الشرعية هي المعنية بالإنقاذ، بينما تعاني من موارد شحيحة، وتنازع في القرار، وتضارب في الأولويات. فالتشظي داخل مؤسساتها لا يُنتج إلا مزيدًا من الإرباك. وأي إصلاح اقتصادي لا يستند إلى مركزية قرار مالي واضحة وكسر لدوائر العبث، لن يكون إلا تكرارًا لتجارب بائسة.

ولا يجوز تكرار أخطاء بعض السابقين ممن تعاملوا مع الدولة كحقل للترضية السياسية، لا كمشروع عقلاني لصوغ التوازن بين القوة والحق. فالحكومة، حين تتنازل عن معيار الكفاءة وتستسلم لمعادلات المحاصصة، تزرع بذور فشلها في نسيج قرارها. ومن حسن الطالع أن بن بريك ينتمي إلى خلفية مالية وإدارية قد تمكنه من إخضاع العاطفة السياسية إلى منطق التكنوقراط الواعي، فيعيد تعريف الوظيفة العمومية كجهاز خدمة لا كغنيمة حرب.

في المقابل، هناك مشروع نقيض لا يعيش على فشل الشرعية فحسب، بل يقتات على انهيارها، مشروع الحوثي الطائفي المدعوم من إيران، الذي لا يعرض نفسه كقوة أمر واقع فقط، وإنما كبديل لجوهر الدولة. مشروع يعيد صياغة وعي اليمنيين ويقدم رواية مغلقة تستند إلى الحق الإلهي وولاية السلالة، وتسعى إلى محو كل ما يمت للجمهورية والمواطنة بصلة.

مواجهة هذا المشروع لا تكتفي بالجانب العسكري رغم أهميته، إنما يتطلب استراتيجية أعمق تُجرد الحوثي من قدرته على تزييف المعنى وتعيد إنتاج سردية وطنية عقلانية قادرة على تفكيك البنية الثقافية والسياسية التي يتكئ عليها. فالمعركة مع هذا المشروع شاملة، تبدأ من المعرفة، وتمر بالعدالة، وتنتهي بإعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمواطن.

وهذا يستدعي مراجعة نقدية لأخطاء المرحلة، لا بهدف تصفية الحساب، وإنما لصياغة وعي جديد يتجاوز الإدمان على الإنكار. فالزمن لا يرحم التكرار، والتاريخ لا يعيد منح الفرص لمن يستهلكها في اللهاث وراء ما ثبت فشله. المأزق ليس في قلة الإمكانيات فقط، بل في إعادة إنتاج الخلل بمنهجية تضمن استمراره.

لذا فإن الفرصة أمام رئيس الحكومة الجديد لا تكمن في الإنجاز السريع، وإنما في كسر الدائرة المغلقة ذاتها. في الانتقال من إدارة الأزمة إلى إعادة بناء شروط الخروج منها. وفي إعادة ترتيب علاقة الدولة بذاتها، لا بوصفها إدارة، وإنما بوصفها إطارًا جامعًا للثقة والشرعية والمعنى العام.

في وطن جُرح طويلًا وكاد يفقد صلته بمستقبله، قد يُعاد ترميم المعنى من موقع الفعل السياسي حين يُدار بضمير حي ووعي تاريخي وعزم لا ترعبه تركة الخراب، بل تستفزه احتمالات البناء من بين أنقاضها.

تعليقات الفيس بوك


Google Newsstand تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news


تابعنا على يوتيوب

تابعنا على تويتر

تابعنا على تيليجرام

تابعنا على فيسبوك

عاجل : دعوة لرئيس الوزراء ” سالم بن بريك” للاطاحة بهؤلاء المسؤولين "اسماء"

جهينة يمن | 1036 قراءة 

رعب في صنعاء من ثورة تزلزل الحوثيين: هذه الأجهزة تدفع الجماعة لإجراءات هستيرية

نافذة اليمن | 590 قراءة 

طعَنوه حتى الموت في منزله.. اغتيال العقيد الملوي يهز عدن

العين الثالثة | 492 قراءة 

عاجل : مقتل عبدالله ياسر عبدالله اليزيدي في المملكة "صورة"

جهينة يمن | 430 قراءة 

عاجل| الجيش الإسرائيلي يطالب بإخلاء 3 موانئ يمنية ويحذر من البقاء فيها

المشهد اليمني | 405 قراءة 

شاهد الصور الأولى لجثة العقيد الذي وجد مقتولاً بعدن

جهينة يمن | 399 قراءة 

دعوة لرئيس الوزراء ” سالم بن بريك” للاطاحة بهؤلاء المسؤولين "اسماء"

صوت العاصمة | 384 قراءة 

حاج يمني يلفظ أنفاسه الأخيرة بعد أداء المناسك..الاسم

المرصد برس | 362 قراءة 

خطيب عيد الأضحى بالجزائر: الحوثيين "كذبة فجرة قتلة للمسلمين"!

العاصفة نيوز | 361 قراءة 

لا يصدق .. هذا سعر السلة الطماطم بصنعاء!

جهينة يمن | 327 قراءة