الفراغ الذي ينادي في حضرموت

     
بيس هورايزونس             عدد المشاهدات : 102 مشاهده       تفاصيل الخبر       الصحافة نت
الفراغ الذي ينادي في حضرموت

كانت نعال الرجل من الجلد الخام، يوحي مظهرها بأنه ينتعلها منذ عقود وأنها ستبقى صامدة من دون أن ينالها أي تآكل، لأنها نعال رجل بدوي حضرمي بين قدميه وبين الأرض التي يطأها صلة وصل وجاذبية خالدة، نعالة مقدودة من جلد كائن أسطوري تسمح لقدميه بعبور المسافات والصبر على العوائق، وعينه لا تحيد عن الهدف ومحطة الوصول التي لا يتنازل أو يتراخى عن بلوغها.

أما الزمن فكان أغسطس 1991 وأما المكان فبجوار المؤسسة الاقتصادية العسكرية في صنعاء بمحاذاة ما يسمى اليوم مجمع الدفاع، أو “العرضي”، كان الرجل في سن التقاعد، عندما لمح في وجهي تساؤلات بادر من تلقاء نفسه متحدثا بلهجته:

“بغينا نتقاعد خلاص ما عاد بغينا الخدمة … يخلوا لنا المشاهرة أما الراشن خلاص يبيعونه في السوق من يوم قامت الوحدة ما عاد شفنا خير. كنا في السابق إذا معنا شيء من الحقوق ننزل عدن ونلقى السكن حتى نخلص المعاملة، ما يتركون العسكري إلا بسكن وتغذية مع زملاه في معسكرات الدولة، واليوم أسبوع في عاصمة الوحدة لا مصاريف ولا سكن ولا راشن، تصرف على نفسك وعاد المعاملة ما خلصت ولا بان لها طرف، وكل شي في صنعاء والمسافة بعيدة، تحملنا ديون ومصاريف ع الفاضي”!

مشهد لا ينسى وحديث بقي في الذاكرة، كشف لي حينها أن البلد اتسعت على الخريطة وضاقت في النفوس، تقزمت على أيدي رجال المركز ومن لا يعرفون حجم البلد ومعاناة ناسه التي تضخمت حتى وصلنا إلى تباشير الحراك الجنوبي ومقالات شيخ طارق المحامي في صحيفة الأيام وبيانات مجلس عدن الأهلي المطالب بالفيدرالية على أساس أقاليم، وقيادة المناضل حسن باعوم لمظاهرات كانت تتعرض للتضييق وصولا إلى اعتقال باعوم نفسه، والمكلا شاهدة على الحراك السلمي الذي واجهته سلطة صنعاء بالتخوين وتجاهل أسباب التحرك قبل أن يتم الاستحواذ على الحراك في الجنوب وتوظيفه وتحويله إلى ورقة لا تمتلك قرار ما ينكتب على صفحتها ولا متى ينكتب.

وسط هذا ومن قبله ومن بعده نسينا الكتلة الصامتة في شرق اليمن الكبير وجنوب جزيرتها العربية، حيث الحضارم الذين شغلوا الدنيا بحضورهم في التجارة والدعوة واغترابهم الذي لا يمكن أن يوصف إلا بالإيجابي لاقترانه الشديد بتنمية بلدان المهجر الحضرمي بالتزامن مع وفاء الحضرمي للأهل والأخذ بأيدي كل محتاج. وهنا يتساوى الحضارم في سعيهم للحفاظ على الكرامة والاجتهاد في طلب الرزق، فتجدهم يمنحون سر المهنة للقريب ويقرضونه رأس المال ليكبر معهم، ويفخرون به إذا عرف الطريق وبلغ قبلهم الآفاق التي لم يبلغوها.

ولو أن اليمن بشرقها ووسطها وغربها كانت بوعي أهل حضرموت وإنسانها لما وُجد فقير، لا في المال ولا في العقل ولا في التدبير والقيادة. بفطنتهم أدرك الحضارم أن الخير في أرض الله الواسعة، لا في التزاحم وتضييع العمر والوقت على الموارد الشحيحة في الوطن، حيث يتكالب الساسة على صعود المنصات واعتلاء الكراسي دون أن يكون لقولهم فصل أو لعملهم أثر. فذهب الحضرمي إلى شرق آسيا، متتبعاً خطى أجداده الذين أصبحوا من أهل البلاد ولم يعودوا غرباء. وفي الوقت نفسه حافظوا على حضرميتهم، ليس فقط بحفظ أصول أنغام الدان، ولا بإتقان معالم اللهجة الحضرمية التي جعلها المحضار ومن سبقوه اللهجة المحببة في الغناء والمسامرات وشعر الحكمة والألغاز والترميز، لكن حضرمية الحضرمي تكمن في روحه وفي نخوته وعزة نفسه وقدرته على إيجاد البدائل.

ومن شرق آسيا إلى شرق إفريقيا، وهذا أيضًا بديل يثبت فطنة القوم في اجتراح السفر والتوكل على خالقهم طلبًا للرزق. وكان لهم منه نصيب وافر في بلاد نجد والحجاز، حيث مملكة آل سعود التي تنظر إلى كل لقب مسبوق بحرف الباء كما لو أنه شيفرة نجاح وسند للتنمية وازدهار التجارة والمقاولات والإعمار.

لماذا نستدعي ثيمة حضرموت وجوهر ما تمثله الشخصية الحضرمية؟ لأن أهل حضرموت بجناحيها في الساحل والوادي لم يكونوا في أي يوم عالة على وطنهم أو أوطان الآخرين، بل كانوا دائمًا مساهمين في البناء أينما حلوا وارتحلوا واستوطنوا. وبقدر ما فتحوا لأنفسهم ثغرات في العالم، كانوا يلتمسون العذر لمسقط الرأس ولا يعولون على من يمسك بقرون البقرة ويحلبها في حوش دارهم.

لذلك ظل إعجابنا بالحضارم يأتي من المدخل الاقتصادي، لكونهم يكفون أنفسهم ويرفدون البلد بالتحويلات والمشاريع وتعليم أبنائهم كل شيء، بينما زهدوا في السياسة وتركوا من تعلق من أبنائهم بحبال الأيديولوجيا يجرب حظه مع دولة اليمن الديمقراطية في العهد الاشتراكي. ذلك العهد الذي جعل الاشتراكية الجنوبية بين عامي 67 و86 كما لو أنها قبيلة موازية تغلبت وحكمت ثم انتحرت، وهذا ما تأكد للمتفرجين مع اندلاع أحداث 13 يناير التي كانت الزلزال الكبير في جنوب ما بعد الاستقلال.

المركزية الشديدة في العقل السياسي اليمني جنوباً وشمالاً جعلت النخبة لا تعرف الكثير عن مجتمعات ليست كما يتوهم البعض أطرافًا، بل هي في الواقع، من حيث العمق الثقافي والاجتماعي والتجذر السكاني، تمثل المتن. ومنها حضرموت التي تحمل معها إلى اليوم على أكتاف رجالها إرثاً وتاريخاً يمتد إلى قرون. لكن الحضرمي لم يكن ينتظر أن يتساقط البيض بين أرجل الديوك المتصارعة باسمه ونيابةً عنه في حلبات السياسة والتحزبات، فكان كالعادة يأخذ غترته ويرحل طلباً للرزق. يغادر بشميز ومعوز ويحتزم بالكمر ولا يعود إلى قريته إلا زائرا رافعا رأسه.

وإذا كان البعض تفاجأ بتجمعات القبائل الأخيرة التي تتلمس طريقها بعد أن تعبت من وعود الجهات كلها، فإننا في الواقع لم نرَ من الجمل الحضرمي الصبور إلا أذنه فقط. ومن يقرأ الكتب أو يشاهد البرامج الوثائقية المنشورة على منصات الإنترنت حول هجرات الحضارم ومساهماتهم في تغيير وبناء المجتمعات التي يعيشون فيها، ويرأسون جامعاتها، ويتقلدون مناصبها الحكومية، سيعلم أن الجمل الحضرمي قادر على النهوض ولن يوقفه أحد.

إلا إذا استحت أطراف البلاد في شمالها وغربها وجنوبها وانحنت لمتن اليمن والجزيرة في الشرق، أي في حضرموت وشبوة، حيث الأقدام المدربة على السير لمسافات طويلة بنعال الصبر والكد.

أخيرًا قال لي صديق إن حضرموت في الطريق إلى أن تفلت من أيدي الجنوب والشمال.

قلت له: إن حضرموت توشك أن تنهض لتفلت من الفراغ الشاسع الذي لا يملك يداً ليمسك بغيره أو يستبقي معه أحداً. الفراغ وحده ينادي حضرموت كما ينادينا جميعاً للنهوض والأخذ بأيدينا. فإذا نهضنا في الوقت المناسب من عثرتنا، يمكن أن يوجد أمل بتشابك الأيادي من جديد لننهض معاً. وإذا بقي الفراغ هو سيد الساحة، فلا لوم على أي مجتمع يحاول النجاة بنفسه من المستنقع الذي أسقطنا فيه بلدنا بإرادتنا.


Google Newsstand تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news


تابعنا على يوتيوب

تابعنا على تويتر

تابعنا على تيليجرام

تابعنا على فيسبوك

اسرة عفاش تواجه قرارا دوليا جديدا

العربي نيوز | 638 قراءة 

عدن.. وفد إسرائيلي يلتقي قيادات في المجلس الانتقالي وزير الدفاع الداعري

الموقع بوست | 506 قراءة 

غارة إسرائيلية على الدوحة كادت تقتل مسؤولًا قطريًا بارزًا إلى جانب قيادات من حماس

يني يمن | 469 قراءة 

تصعيد حوثي يربك الأجواء.. انفجار غامض فوق سماء المدينة المنورة

مأرب برس | 458 قراءة 

بعد ليلة مشبوهة مع مالك الشقة.. سقوط فتاة من شرفة منزل في عدن والعثور على مفاجأة بحوزة صديقتها

المشهد اليمني | 438 قراءة 

إسرائيل على أبواب عدن..وفد صحفي إسرائيلي يلتقي قيادات المجلس الانتقالي الجنوبي

يني يمن | 361 قراءة 

رئاسة الوزراء تدعم قرارات اللواء الزبيدي: بداية حقيقية لإصلاح شامل وإنهاء الفساد

العين الثالثة | 348 قراءة 

اعتقال قيادي حوثي بارز في صنعاء على خلفية الغارة الجوية التي استهدفت اجتماع الحكومة

الحدث اليوم | 332 قراءة 

الرئيس الجديد لحكومة الميليشيات يتعهد بمواصلة قتال إسرائيل من صنعاء مهما كلفت من دماء اليمنيين

يني يمن | 282 قراءة 

ضاحي خلفان يؤكد بان إسر...ائيل العظمى في طريقها لتطويع الامه العربية والاسلامية طوعا او بالقوة ويحييها على قوتها ونهجها وهذا ما قاله عبر سلسلة تدوينات له مع ان قيادات خليجيه طالبته بالحذف

المشهد الدولي | 277 قراءة