الى كل روح ترفرف في ملكوت الخلد، الذي صعدت إليه من هنا، بعد أن وضعت قواعد هذا الحصن الفة أمانا وسكنى ودار عباده.
وحتى آخر امرأة خرجت من الحصن الحجة عزيه القدسي.
صعودًا أنطلق بأقدامنا الفجر في تقابل مع إشراقة الشمس يوم الأربعاء 12/3/25 صوب اعماق حصن نعامة أصابح.
تجنبنا الطريق التي اعتدنا المشي فيها، عدا طريق فرعان، الوين، الغبيب، التي تحفظ اقدامنا عن ظهر قلب التاريخ أو عن ظهر قلب العمر الذي مشت في تفاصيله أيامنا تسوقًا، طلابًا وتدريسًا.
كنت أكبر وأكثر فريق هذه الصباحية الرمضانية جوابًا هذه الطريق مذ كنت طالبًا في مدرسة الفجر الجديد في التربة في الأعوام 1975- 1979. وبعده حين كنت مدرسًا في مدرسة الغافقي الأعوام من 87 إلى 90.
كان لكل منا هاجسًا يشغل باله وشوقًا ما يجذبه لتلك الأعالي التي ننوي بلوغها. الطريق التي أرتدناها كانت الطريق الوعرة التي تواز انبوب المياه الصاعد الى الخزان والتي تسمى (الدفين) حسب د.صلاح سالم.
في كل خطوة كنت أشتم عبير الحشائش المتصاعد من تلك الآجاب وكذا حملات الأحطاب ورونق جرار الماء الذي ينشع من فخارها.. التي كن الأمهات ينزلن سعيًا وراءها ويصعدن انتشاء فيها.
في هذي الطريق الوعرة التي كنا نرتقي أعالي أنفاسها، كنت أتحسس بيدي بعض الخطوات وأتوكأ على عصاي، في خطوات أخرى..
كانت تتدافع في تخيلاتي من ذاكرة الطريق مشاكسات الرعيان المختلطة بأصوات الأغنام والأبقار وهمسات الاخضرار وزغاريد العصافير وألوان الفراشات، وما إلى ذلك من مرح لاتحد مسراته.
وأنا اتمسك بماصورة الماء تذكرت أولئك الذين كانوا يتزحلقون عليه ولعله يكون واحدًا من قراء هذا السطور.
ما أن تجاوزنا هذي الطريق الصخري حتى كنا وجهًا لوجه أمام اشراقة الشمس..
عرجنا ناحية اليمين صعودًا الطريق المؤدي إلى بوابة حصن نعامة. وما أن شاهدت الدار الأكبر فيها ذو الثلاثة أو الأربعة الطوابق، المبني فوق صخرة صماء وله مدخل واحد من جهة اليسار حتى تذكرت محمود درويش في خطبة الهندي الأحمر..
كان المسجد بملحقاته (السقايات المطلية بالنورة و…) باتجاه اليمين بينما شكلت الواجهات الخلفية لبعض البيوت واجهة السور الغربي والجنوبي.
من ذات المكان إلتقط الدكتور صلاح سالم صورة للمناطق التي يطل عليها هذا الحصن وهو نفس المكان الذي ألتقطت منه صورة قبل أكثر من خمسة عقود، (كمقارنة للتطور العمراني الذي حدث في هذه الفترة الزمنية، انظر الصورتين المرفقتين).
وهنا بدأت استنطق الأطلال ب:
قفا نتأمل من مروا فرداى وجماعات من هنا..
قفا بأطلال هذا الحصن فإن هذه البيوت بحجارتها، غرفها، أخشابها وجدرانها وأبوابها الخشبية وبمسجدها بسقاياته تقرؤنا سلام من سكنوا فيها منذ وطأت أول قدم فيها وحتى آخر قدم خرجت منها وهي الجدة..
وقفا نرد عليها بأحسن منها التحية السلام.
هنا كان المكان عامرًا بالحيوية التي صارت أرواحها جنودًا مجندة ترف وتطوف حوالينا إنبثاقًا من هذه الأطلال..
من هنا صعد إلى الغافقي الطلبة الذين درسوا على يدي في الغافقي، ومنهم من تبعني إلى الجامعة بعد أن انتقلت إليها.
الجميع وغيرهم سيتذكرون تفاصيل صعودهم إلى الغافقي وعودتهم منها.
الكثير من أبناء الأصابح الذين صاروا رجالًا، سيتقافزوزن من خلال هذه السطور تذكرٍا وذكرى، تحن إلى أيام العابهم الطفولية الغماية والشعرير وشد الحبل و سيتذكرن الأمهات اللواتي كن في عمر الزهور العاب الخميس وقفز الحبل وغيرها.
ها نحن نستشق روائح الأعراس من مشاقر الريحان وقبوة الكاذي ومشاقر السواد والجنة، ونعتصر في خلايانا الشمية بخور هذه الأعراس وخمرة حنائها وزبادها، وننعم مشاقر ريش الخيال الاصطناعية في خدود المقايل والسمرات.
في هذه اللحظات أراني أنتشي بالروائح المصاحبة لطقوس الولادة، مثل روائح العبلي، اللبان الذكر، والجاوي.
في لحظة تأمل ما، أراني أشارك شباب هذا الحصن تمسيات الأعياد حين تترصد كل قرية مايجاورها من القرى.
لمذاق اللحم المطبوخ في القشوة مذاق لا يستطيع من يتذكره إمساك لعابه.
من مداخل البيوت الدور الأسفل (العريش) من كل بيت تنبعث روائح الأبقار والأثوار..
تتصاعد من درجاتها روائح السمن البلد والحقين بنكهة العنشط والفيجل واللبا وجبابة الحقين الساخن بذات الروائح.
ومن (مآفيها) تنوراتها نتذوق طعم الفطير والكدر وخبز المافي في الأعياد والولائم.
للماورة نغمتها الخاصة المصاحبة للملالة وبث شكوى البين والهجران.
لسمراتها الرمضانية نشوتها الخلابة المضيئة (باتاريك الترمكس) ومثاقفاتها الأدبية والتاريخية والأدبية والدينية..
لسحورها راوئح اللبن والسمن المختلط بمذاق عصيد الدخن..
وها هي العطور المصاحبه للموالد النبوية تشق طريقها لتسكر الأنفاس وتطرب الأسماع بالتنويعات الصوتية لأدائها.
في دواوينها بدأت مباريات الشعر ومن هدهدات الجدات تتصاعد إلى مسامعنا الآن حكايات وأساطير، الدجرة، الجرجرف، و وريقة الحناء وغيرها.
لم يفارق هذا الحصن كرهًا سوى الأجساد التي أجبرتها الظروف المعيشية على المغادرة سواء صوب المدينة اغترابًا في الوطن أو صوب الغربة جريًا وراء الرزق.
هنا ماتزال تتسامى الأوراح فلم يغادر أطلالها التاريخ، فهي الفضاء المسترسل تأملا والمنهمر ذاكرة وذكرى.
كثير سيقرأ بين هذه السطور طفولته وألعابه وزنيته بين أحضانها، وحتى التفاخر بالمال والأولاد والمناصب.
إنهدم السور وهدمت المباني، وتهمدم المسجد ولكنه مايزال بسمو صلاته وتسبيحاته وسقايات وضوئه، مشعًا تفاصيل أنواره، وشاهدًا حيًا على أصالة هذه الأرواح التي ترفرف في فضاءاته.
مازالت البيوت المترابطة شاهدة على ذاك الترابط الأجتماعي ألفة ومحبة وحياة.
الأخشاب لم تزل شاهدة على أشجارها، الأبواب على أمانها الكان، العقود على تلاحم أحجارها..
لم يعد هناك ساكنًا؟ أجل، بينما يتواجد تاريخ مبني بالأحجار الشاهدة عليه وتاريخًا حديثًا توائم مع من سبقه..
وفي مدافنها كان يحفظ الخير الوفير من كل أنواع الحبوب.
في أحدى السقايات مازال الماء في قاعتها كالدمعة في عين واحدة تناظر آتي السحاب، وربما تشتاق لكف يحرك فيها الحياة..
فهل أردد بعد درويش قوله الكمنجات تبكي على زمن ضائع لن يعود
الكمنجات تبكي على وطن ضائع قد يعود..
لأقول هاهي نعامة بحصنها الذي كان حصينًا، لن تعود إلى ساكنيها حياة وألفة ومحبة ودار عبادة..
ولكنها قد تعود لدورة الحياة في إشراقات الأثر التاريخي إن قدر لها ذلك.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news