أعد الحلقة لـ”يمن ديلي نيوز” محمد العياشي:
في هذه الحلقة، يأخذنا المفكر والرحّال الفرنسي بول نيزان في رحل إلى عدن في العشرينات من القرن الماضي، حينما كانت المدينة تحت الاحتلال البريطاني.
من خلال كتابه “عدن العربية” يروي نيزان انطباعاته عن الحياة في هذه المدينة الساحلية، راسما صورة “مظلمة” للاحتلال البريطاني في عدن خلافا لما حاولت البروبجندا البريطانية رسمه عن احتلالها لهذه المدينة.
بول نيزان، كاتب ومفكر وفيلسوف فرنسي وُلد في مدينة تورز عام 1905، ويعد من أبرز الشخصيات التي ساهمت في الفكر الأدبي والسياسي في القرن العشرين.
درس في مدرسة هنري الرابع الثانوية في باريس حيث التقى بزميله المستقبلي جان بول سارتر، ثم انتقل إلى مدرسة المعلمين العليا. إلا أن نيزان، الذي كان يعاني من الضغوط الأكاديمية، قرر أن يهرب من هذا العالم إلى عالم آخر بعيدا عن باريس.
إلى الفردوس المفقود
في عامي 1926-1927، سافر إلى عدن، لتكون تلك الرحلة بالنسبة له بمثابة هروب من القيود الأكاديمية وأداة لاكتشاف عالم جديد.
أثرت رحلة الكاتب والفيلسوف الفرنسي بول نيزان لمدينة عدن بشكل كبير على أعماله الأدبية والفكرية.
ففي رسائله إلى صديقته هنريت، عبّر نيزان عن انبهاره بجمال عدن، واصفًا إياها بـ”الفردوس المفقود الذي تم العثور عليه مجددًا”.
كما أبدى إعجابه بتضاريس المدينة، مشيرًا إلى البحر والجبال ومناطق مثل لحج الخضراء.
في مقدمة كتابه “عدن العربية” (1932)، وصف نيزان عدن بأنها “صورة مصغرة عن أوروبا لا تتميز عنها إلا بطقسها الحار القاتل”.
وأشار إلى أن رحلته إلى عدن كانت تحولًا من يساري متمرد إلى شيوعي راديكالي، حيث سجل تأملاته وبعض الوقائع المتفرقة عن الحياة في عدن خلال تلك الفترة.
تُظهر كتابات نيزان عن عدن تأثره العميق بالمدينة وسكانها، لكنه في المقابل عبّر عن خيبات أمله واستنكاره لزيف الوجود المريح الذي سعت البروبجندا البريطانية لرسمه لتبرير احتلالها لعدن.
خلال إقامته في عدن، عاش نيزان في كنف عائلة إنجليزية، بعيدًا عن اختلاط حقيقي مع الأهالي.
كان يراقبهم من بعيد، يراهم في لحظات فرحهم وحزنهم، أو أثناء مشاركتهم في “المسيرات” الجنائزية، التي كانت تنطلق في شوارع المدينة وكأن أفرادها أبطال في سباق الحياة.
الصراع مع المجهول
تعرف نيزان على شخصية إنجليزية في عدن، وهو رقيب بريطاني قضى هناك أكثر من أربعين عامًا، كان قد تدنى في نظر الإنجليز إلى درجة تدخين التبغ المحلي (المداعة) وارتداء الفوطة والعمل ككاتب عمومي للعرب.
في الليل، كان يقضي وقته في شرب الكحول حتى الثمالة كوسيلة لمقاومة الجنون والخوف من العزلة. وفي النهاية، كانت المدينة تتسم بالملل، حيث كان الجميع يعيشون تحت ضغط روتيني يومي، يتكرر بلا توقف.
عدن العربية
قد يرى من يقرأون العنوان أن كتاب نيزان الذي عنونه “عدن العربية” محاولة لمحو يمنيتها إلا أن الواقع الذي لمسه بفعل الاحتلال البريطاني الذي يحاول إخراجها من طبيعتها العربية اليمنية دفعه لعنونة كتابه “عدن العربية”.
في كتابه هذا حاول الرحالة الفرنسي “نيزان” التأكيد على “عربية عدن” بعد أن كانت بريطانيا جمعت لها من مختلف الأعراق لإخراجها من طابعها العربي إلى طابعها الأوربي.
استخدم “نيزان” عدن كنموذج لانتقاد الإمبريالية، إذ رأى فيها تمثيلًا للاستغلال الاستعماري والفجوة الطبقية الحادة التي خلقها الاستعمار بين الأوروبيين والسكان المحليين.
في هذا الكتاب وثق ممارسات الاحتلال البريطاني في “عدن” راصدا العنصرية البريطانية في التعامل مع اليمنيين في عدن مقابل الامتيازات التي كان يحظى البريطانيون والذين قامت باستقدامهم.
لاحظ نيزان وجود فجوة طبقية هائلة بين المستعمرين البريطانيين والسكان المحليين، حيث كان الأوروبيون يتمتعون بامتيازات خاصة، مثل مساكن أفضل، أجور مرتفعة، وخدمات راقية، بينما عانى السكان المحليون من الفقر والتهميش.
قال إن البريطانيين كانوا ينظرون بازدراء إلى اليمنيين والسكان الأصليين، مما عزز نظامًا طبقيًا صارمًا.
وذكر “نيزان” أن البريطانيين استغلوا العمال اليمنيين بشكل قاسٍ، حيث كانوا يعملون في ظروف بائسة وبأجور منخفضة، كما تم استغلال الميناء كمركز تجاري يخدم المصالح البريطانية على حساب السكان المحليين.
فضلا عن ذلك كان هناك غياب شبه كامل للحقوق العمالية، مما أدى إلى معاناة واسعة بين الطبقات الفقيرة.
ورصد الفيلسوف الفرنسي “نيزان” محاولات البريطانيين فرض ثقافتهم على عدن، حيث تم إهمال التعليم المحلي لصالح المدارس التي تخدم مصالح المستعمرين، وتم تحويل عدن إلى مدينة تجارية تخدم الإمبريالية البريطانية بدلًا من أن تكون مركزًا ثقافيًا وعربيًا مستقلًا.
نسخة مشوهة
ذكر بول نيزان في كتابه “عدن العربية” أن عدن بدت وكأنها “جزء من أوروبا، لكنها ليست إلا نسخة مشوهة مليئة بالقهر والاستغلال”.
رصد “نيزان” خلال زيارته التي استمرت عام القمع السياسي الذي مارسه الاحتلال البريطاني، حيث أشار إلى أن أي مقاومة أو مطالبات بالحقوق من قبل اليمنيين كانت تواجه بقمع شديد من السلطات البريطانية، وكان الاحتلال يستخدم القوة العسكرية للحفاظ على السيطرة وإسكات أي احتجاجات محلية.
رأى نيزان أن ما يحدث في عدن ليس مجرد ظاهرة محلية، بل هو انعكاس للاستعمار الأوروبي في العالم العربي وأفريقيا وآسيا، واعتبر أن عدن تجسيدا لوحشية النظام الرأسمالي والإمبريالي، حيث يتم نهب الموارد واستغلال السكان لصالح القوى الغربية.
تأثير عدن على “نيزان”
كانت رحلته إلى عدن نقطة تحول فكرية لدى الفيلسوف الفرنسي “نيزان” إذ تحوّل من شاب برجوازي إلى ناقد شرس للاستعمار والإمبريالية، وبعد عودته إلى فرنسا، انضم إلى الحزب الشيوعي الفرنسي وكتب هذا الكتاب كتوثيق لما رآه من ظلم وقهر في عدن.
مما قاله في كتابه “عدن العربية”: كان البريطانيون يعيشون في قصورهم الفخمة، بينما يكافح السكان المحليون من أجل لقمة العيش في شوارع قذرة، تحت شمس لا ترحم، وفي ظل اقتصاد لا يعترف إلا بأرباح المستعمر.
في نهاية المطاف، كان كتاب “عدن العربية” هو وثيقة أدبية حية لرحلة بول نيزان في عدن وما اكتسبه من هذه التجربة.
إنه ليس مجرد وصف لحياة المدينة الاستعمارية، بل هو رحلة فكرية عميقة حول الاستعمار، الهوية، والصراع بين الشرق والغرب.
من خلال تأملاته، عرض نيزان التناقضات التي عاشها في عدن، وأسهم في توثيق الحياة الاستعمارية في فترة مبكرة من القرن العشرين.
المراجع:
– كتاب “عدن العربية” للرحالة “بول نيزان”
– مقال للدكتور شهاب القاضي نشر في عدن تايم
– المرتجمة السورية “سهيلة إسماعيل”
سلسلة حلقات “المستشرقون واليمن”:
الحلقة الأولى: الألماني “نيبور” ورحلته إلى البلاد التي تحكمها التوازنات
الحلقة الثانية: “هاليفي” في رحلة استكشاف تاريخ اليمن تحت عباءة التسول
الحلقة الثالثة: رحلة البريطاني “برتون” إلى أرض النقوش والعادات الفريدة
الحلقة الرابعة: “ثيسيجر” الذي وجد أن السعادة الحقيقية في قلب الصحراء
الحلقة الخامسة: فيلبي “الحاج عبدالله” الذي ساهم في رسم ملامح الجزيرة العربية واليمن
الحلقة السادسة: “جلازير” النمساوي الذي ارتدى ثوب “التشيع” لنهب آثار اليمن
الحلقة السابعة: “مانزوني” في رحلة تكشف تطور صنعاء قبل عودة الإمامة إليها
الحلقة الثامنة: “فريا ستارك” في مهمة الاستكشاف والتجسس لصالح بريطانيا
الحلقة التاسعة: “جورج كولان” رحلة دبلوماسية واكتشاف اللهجات اليمنية
الحلقة العاشرة: الألماني “هولفريتز” في رحلة إلى اليمن من الباب الخلفي
مرتبط
الوسوم
المستشرقون واليمن
نسخ الرابط
تم نسخ الرابط
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news