بران برس
أعد التقرير لـ"بران برس" - إيناس الحميري:
بين أزقة مدينة تعز القديمة وأسواقها المزدحمة، تتكشّف مفارقة اقتصادية محيّرة. العديد من سكّان الحوبان يعبرون يوميًا الخط الفاصل نحو المدينة، بحثًا عن أسعار أقل للمواد الغذائية، ثم يعودون محمّلين بالسلع.
هذه المفارقة أثارت استغراب الكثيرين، خاصةً وأن سكّان مدينة تعز، يشكون معاناتهم اليومية جراء ارتفاع الأسعار في أسواق مدينتهم.
تبدأ القصة منذ ساعات الفجر، حين يخرج رجال ونساء من أحياء منطقة الحوبان الخاضعة لسيطرة جماعة الحوثي المصنفة عالميًا بقوائم الإرهاب، متجهين نحو مدينة تعز التي تسيطر عليها الحكومة اليمنية المعترف بها، حيث تُروى حكايات عن سوق يُقدم أسعارًا تنافسية للسلع الأساسية.
في طريقهم، تلتقي عيونهم بأضواء المدينة المبهرة، وأصوات الباعة المتنافسين على أسعار السلع، وكأنهم يدخلون عالمًا مختلفًا عن الواقع المألوف في الحوبان.
تباين الأسعار
في ظل الانقسام الاقتصادي والسياسي الذي تعيشه البلاد، أصبحت تعز مقسمة إلى وجهتين متناقضتين: مدينة تعز التي تعاني من ارتفاع الأسعار نتيجة الطلب المحلي المرتفع والضغوط الاقتصادية الناجمة عن الحصار، والحوبان التي تواجه تحدياتها الخاصة في ظل رسوم ونفقات إضافية تزيد من تكلفة السلع.
رغم أن المواد الغذائية التي تدخل كلا المنطقتين تأتي من نفس المصادر، إلا أن آليات التسعير والعوامل اللوجستية تختلف بشكل ملحوظ، مما يخلق تفاوتًا صارخًا في الأسعار.
يوضح أحمد حسين، أحد التجار بمدينة تعز، أن الفارق في الأسعار لا يعود إلى اختلاف جودة السلع، بل إلى تكاليف النقل والرسوم الجمركية التي تُفرض عند عبور المواد الغذائية إلى الحوبان.
ويضيف: “ما يحدث ليس صدفة، بل نتيجة مباشرة لسياسات النقل والرسوم المفروضة عند الحدود. نرى أن السلع التي تدخل المدينة تباع بسعر أقل لأنها لا تخضع لنفس الرسوم التي تُفرض على السلع الموجهة إلى الحوبان”.
من جهة أخرى، يعزو أهالي الحوبان هذا التفاوت إلى سياسات التسعير التي تتبعها الجهات المسؤولة عن إدارة سوق الحوبان، حيث ترتفع الأسعار بشكل ملحوظ نتيجة نُدرة السلع وتكاليف النقل الإضافية التي تفرضها الظروف الأمنية واللوجستية في المنطقة.
آراء وتجارب
المواطن محمد سعيد، من سكان الحوبان، وأب لخمسة أطفال، يقول لـ“بران برس”: “كل أسبوع، أقطع المسافة إلى المدينة مع عائلتي لشراء احتياجاتنا الأساسية”.
ويضيف: “رغم أن تكلفة المواصلات قد تكون مرتفعة بعض الشيء، إلا أن الفرق في الأسعار يجعلنا نعتبر الرحلة استثمارًا يخفف من معاناتنا الاقتصادية. للأسف، عندما نحاول الشراء في الحوبان، نجد الأسعار أعلى بكثير مما نستطيع تحمله”.
في المقابل، عبرت أم محمود، وهي ربة منزل تسكن مدينة تعز القديمة، عن استيائها من الظاهرة قائلة لـ“بران برس”: “نشعر بالظلم؛ فنحن أبناء المدينة نعيش وسط هذا الارتفاع المبالغ فيه في الأسعار، بينما يأتي البعض من الحوبان ليشتروا بسعر أقل.
وتضيف: “يبدو أن الأسواق المحلية تُحرمنا من نفس الفرصة رغم أننا هنا منذ الأزل. الأمر أصبح يثير شعورنا بالاستبعاد”.
من جانبه، يقول فهد علي، وهو صاحب متجر صغير، أن هذا الوضع يؤثر بشكل مباشر على القدرة الشرائية لسكان المدينة، موضحًا أن “الإقبال المتزايد من أهل الحوبان على أسواقنا يؤدي إلى ارتفاع الأسعار، مما يجعل من الصعب على السكان المحليين تحمل نفقاتهم اليومية. مضيفًا أن “هذا الوضع يدفعنا للتساؤل عن السياسات التي تساهم في خلق هذه الفوارق”.
عوامل اقتصادية ولوجستية
يتفق الخبراء على أن الفجوة في الأسعار لا تعكس تحسنًا اقتصاديًا في مدينة تعز، بقدر ما هي نتيجة لعوامل متعددة تتداخل لتشكل هذه الظاهرة.
ففي ظل الحصار المستمر، تفرض الجهات المختلفة رسومًا ونفقات إضافية على نقل المواد الغذائية من الموانئ إلى أسواق الحوبان، ما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار هناك. وفي المقابل، تتوفر السلع في مدينة تعز، مباشرةً من مصادرها دون المرور عبر نفس العقبات، مما يتيح لها أن تُباع بسعر أقل.
يقول الخبير الاقتصادي مصطفى نصر، لـ“بران برس”، إن “الأسعار مرتفعة على سكان المدينة سواء المقيمين أو القادمين من خارجها”، وفي الوقت نفسه، تعتبر أرخص نسبيًا بالنسبة للوافدين من مناطق سيطرة الحوثيين”.
والسبب الرئيس، وفق مصطفى نصر، “يعود إلى فارق سعر الصرف بين مناطق سيطرة الحكومة الشرعية والمناطق التي يسيطر عليها الحوثيون، ففي مناطق الحكومة، سعر الصرف منخفض مقارنة بمناطق الحوثيين، وهذا يخلق فارقًا واضحًا في القدرة الشرائية”.
وحتى مع ارتفاع الأسعار في مدينة تعز، قال إن “هذا الارتفاع لا يصل إلى مستوى الأسعار في مناطق سيطرة الحوثيين، حيث أن سعر الصرف هناك غير عادل، فهو مفروض بالقوة وليس ناتجًا عن عملية عرض وطلب حقيقية. وهذا يعني أن العملة هناك تبدو مستقرة ظاهريًا، لكنها في الواقع لا تعكس القيمة الحقيقية للريال اليمني”.
فارق الصرف
نفى الخبير الاقتصادي، وجود شيء اسمه “غذاء أرخص للغرباء وأغلى على السكان المحليين”، مؤكدًا أن “الأسعار موحدة في الأسواق، وتباع بنفس القيم لجميع الناس، وما يحدث هو أن فارق سعر الصرف يجعل القادمين من مناطق الحوثيين يحصلون على ميزة شرائية أكبر”.
وعلى سبيل المثال، قال: “إذا كان لدى شخص في مناطق الحوثيين ما يعادل 100 ريال سعودي، فسيشتري بها كمية أقل من البضائع مقارنة بما يمكنه شراؤه عند دخوله إلى مدينة تعز، حيث يستطيع صرف تلك الأموال بالريال اليمني التابع للبنك المركزي في عدن، مما يمنحه كمية بضائع أكبر بسبب الفارق في سعر الصرف”.
وهذا الفارق، وفق الاقتصادي نصر، “يعكس بشكل واضح حالة الانقسام الاقتصادي بين الطرفين، ويشير إلى تدهور سعر الريال اليمني في مناطق الحكومة الشرعية. ومع ذلك، فإن تثبيت سعر الصرف بشكل مصطنع في مناطق الحوثيين لا يعكس الواقع الاقتصادي الحقيقي، وهذه نقطة مهمة”.
فرصة أفضل
إضافة إلى ما سبق، أشار الخبير الاقتصادي، إلى أن “هذا الوضع الاقتصادي سيشكل ضغطًا متزايدًا على المدينة خلال الفترة المقبلة، سواء من حيث الخدمات أو البنية التحتية”.
وقال إنه “من الطبيعي أن الكثير من الناس يفضلون الانتقال إلى المناطق التي تسيطر عليها الحكومة الشرعية، ليس فقط بسبب الأوضاع المعيشية، ولكن أيضًا لأن هذه المناطق تمنحهم فرصة أفضل للاستفادة من تحويلات المغتربين، حيث تكون عملية صرف العملات الأجنبية أعلى في مناطق الحكومة، ما يوفر لهم إمكانية شراء منتجات أكثر.
وفي المقابل، قال إن “هذا التدفق السكاني يشكل عبئًا على المدينة، وهو ما أدى إلى الازدحام الكبير الذي شهدته تعز خلال الفترة الماضية”، معتبرًا هذا “تحدٍّ إضافي ينبغي التعامل معه بجدية لضمان استقرار الوضع الاقتصادي والخدمي في المدينة”.
تداعيات الظاهرة
ارتفاع الأسعار في مدينة تعز، لم يعد مجرد مسألة تجارية بل أصبح يمثل تحديًا اجتماعيًا واقتصاديًا يؤثر على حياة المواطنين اليومية. ففي ظل ارتفاع تكاليف المعيشة، يجد العديد من الأسر نفسها مضطرة للتخلي عن بعض الكماليات الأساسية، كما تتأثر القدرة الشرائية للطبقات المتوسطة والفقيرة بشكل مباشر.
أحد التجار في الحوبان، قال لـ“بران برس”، مفضلًا عدم ذكر اسمه، إن ارتفاع الأسعار في الحوبان اختلاف السياسات والإجراءات المتبعة في إدارة الأسواق، ما يخلق نوعًا من الاحتكاك الاجتماعي بين سكان المنطقتين.
وتحدث عن صعوبات يواجهونها في الحصول على السلع بأسعار تنافسية بسبب الرسوم الإضافية، وقال إن “هذا يدفع الكثير من المواطنين إلى اللجوء إلى شراء المواد الغذائية من المدينة، مما يزيد من الضغط على أسواقها ويؤثر على الأسعار المحلية”.
من جانبه، يأمل أهالي مدينة تعز، بتحرك السلطات المعنية لضمان حقوقهم الأساسية في الحصول على السلع بأسعار مناسبة، وأن يتحقق التوازن في الأسواق بما يخفف من وطأة التفاوت الاقتصادي بين المناطق داخل المحافظة.
الحوبان
تعز
أسعار السلع
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news