لا تتجاوز عدد أصابع اليدين البيوت التجارية والصناعية والمالية الرأسمالية ذات الطبيعة الوطنية، التي اتفق اليمنيون على حق امتيازها للمعنى “الاقتصادي الوطني”، وللمعنى الاخلاقي والإنساني، ومن هذه البيوت / رجال الأعمال، ما أسسه خالد الذكر هائل سعيد أنعم.
وهو الذي نجده اليوم حاضراً في أعمال/ فعاليات، لها دور في التنمية الاقتصادية والاجتماعية وفي التنمية الثقافية (مؤسسة السعيد الثقافية/ جائزة السعيد الثقافية)، وفي الأعمال الخيرية الإنسانية العديدة.
حتى اليوم ما تزال الأجيال المشتغلة بالكتابة وبالبحث التاريخي حول التعليم، والتنمية الإنسانية، تتذكر، الشيخ، علي محمد بازرعة، لبنائه مدرسة “بازرعة”، التي حملت لقب عائلته، وخرجت أجيالاً من رموز الفكر والسياسة والدولة، وحتى اليوم – كذلك – ما تزال الكتابة تتكلم عن شمسان عون الأديمي، وسلام علي ثابت، وعبدالقادر أحمد علوان، وأحمد حيدر ثابت الأديمي،وغيرهم لدورهم واسهامهم البارز في بناء مدرسة “كلية بلقيس” التي خرجت عشرات الآلاف من رجال الفكر والثقافة والسياسة، ومن رجال الدولة – ضداً على شراء سلاح لقبائل خولان – وهي المدرسة/ الكلية،التي وقف خلفها المعلم/ الرائد الاستاذ، أحمد محمد نعمان.. .. كما وقف حين كان قريبا من ولي العهد، أحمد في تعز، في الدعوة لتأسيس مدرسة، وهي التي اسميت بالمدرسة” الأحمدية”, في العام،٣٥- ١9٣٦م، بدعوته الحثيثة لذلك، وهو ما لا يعلمه الكثير منا.
من يستطيع أن يقفز أو يتجاهل دور “الاتحاد اليمني”، والتجار اليمنيين، في الشتات المهجري، والنوادي والجمعيات القروية المبكرة في تعز وعدن ولحج، وحضرموت في إرسال مئات الطلبة للدراسة في الخارج في زمن الفقر والمرض والجوع، وانعدام الحد الأدنى من التعليم، خاصة وتحديداً في المرحلة الإمامية، الذي نجد أنفسنا اليوم نستعيده بتفاصيله الكالحة!!.
اليوم، أغلب البيوت التجارية والمالية التي كانت – إن لم أقل جميعهم – لم تعد موجودة، ذهبت أموالهم وتجارتهم مع ريح وعواصف الربح والخسارة، وبقيت – بعضهم – ذكراهم الطيبة تحمل أسماءهم بالذكر الجميل إلى كل مكان، ونحن نتكلم ونكتب عن التعليم والأعمال الخيرية الإنسانية في اليمن.
المال حالة زائلة، على أن القيم الاخلاقية والخيرية – الإنسانية هي فقط العابرة للزمن، هذا لمن يفهم ويتعظ من رجال المال والأعمال، أن جميل الأعمال هو الباقي والخالد، وليس جري الوحوش بعد المال وكيفما اتفق.
وفي هذا السياق أتذكر صديقي النبيل، علوان الشيباني، رحمه الله، الذي اختط ذات الطريق ،حيث ستجد اليوم جميع فئات وشرائح الطيف الاجتماعي والفكري والسياسي والثقافي والوطني يجمعون على القيمة الاخلاقية والوطنية والإنسانية لما أسسه ذلك الرجل، وما تركه من أثر جميل ونبيل في حياة الناس، أعني وأقصد هنا طيب الروح والذكر، هائل سعيد أنعم.
” رحل المغني، وبقيت الأغنية”, هذا ما كتبه،د. أحمد الخميسي، عن، القائد العظيم، جمال عبدالناصر، أي أن أفعال الجمال والخير والسلام، في السياسة والسلطة وفي الحكم، وفي الفكر والادب، وفي العطاء النبيل في المال، تبقى كأغنية خالدة، مع رحيل المغني.
–
البدايات والمقدمات دائماً – أو غالباً- هي من تحدد شكل النهايات/ النتائج، سلباً أو ايجاباً، فلا وجود للمعنى الخيري والإنساني، على أي مستوى كان، بالصدفة، أي دون مقدمات ذاتية تدل على ذلك وتقود إليه.
هائل سعيد أنعم رجل عصامي مثابر ذهب من بدايات شبابه المبكر- العشرينيات- إلى أصقاع الدنيا يبحث عن الرزق/ العمل.. العمل المنتج، تاركاً خلفه ثقافة الحرب والفيد والنهب، “الخطاط، والتنافيذ”, تحرك إلى أوروبا، وأفريقيا وإلى غيرها ليؤسس لمعنى جديد لاسمه ولحياته ولتاريخه من بعده .. رجل عصامي بنى نفسه من الصفر، بعيداً عن السياسة والسلطة، والفساد واللصوصية؛ وحتى حين أضطر – لاحقا – للاحتكاك بالسلطة أو بتعبير أدق احتكت السلطة به، أقصد النظام السياسي/ الدولة، احتك بها رغماً عنه، ولكنه بقي خلالها محافظاً على معناه الاخلاقي والوطني والإنساني، وهي معادلة صعبة، في زمن اصعب، لم تجبره العلاقة الاعتراضية العنيفة والقلقة والمضطربة والمرتبكة بالشرط السياسي للتنازل عن معناه التجاري والصناعي النظيف.
إنه رأس المال التجاري والصناعي الإنتاجي الذي يرتكز على قيمة العمل والإنتاج، الذي أسس معناه التجاري والمالي بل والوجودي كله، على أساسه، وربى أولاده وأولاد أخيه على جميل تلك المعاني التربوية الجمالية، والثقافية المنحازة لعظيم القيم، وهو ما نراه ونلمسه في جميع ورثته من الجيل الأول وأولادهم من بعدهم، وليس على محمد سعيد، وأحمد هائل وعبدالجبار هائل وعبد الرحمن هائل ونبيل هائل وغيرهم الاستثناء في ذلك، جميعهم فروع من ذلك الأصل النبيل/ الشجرة الطيبة.
يرحل الكرام والخيرون على المستويات والمجالات كافة، وتبقى ذكراهم العطرة ، اغنية تهذب الوجدان، وتشنف الأذن والروح، وتدل عليهم من بعدهم.
مناسبة هذا الحديث مرض الصديق والشاعر د. سلطان الصريمي الذي أسعف اضطرارياً إلى أحد المستشفيات، فوجدت أسرته نفسها، ونحن معها في ورطة وفي حيرة من أمرنا، كيف سيكون سداد تكاليف المشفى، الذي تتراكم أرقامها مع كل يوم يمر، بعد أن تقاعست جميع الجهات الرسمية، وقيادة حزبه عن القيام بما يجب عليهم تجاه من هم، كوادرها وجزءاً من بنية / تركيبة قياداتها العليا (الدولة/ الحزب).. ليس المطلوب منهم، ولم نكن ننتظر منهم، دفع تكاليف العلاج من ميزانياتهم الخاصة، ولا حتى من ميزانية الحزب/ الاحزاب،، فذلك ما لا نتوقعه منهم، لأن المطلوب منهم فقط، كان التحرك الجدي والمسؤول مع الجهات الرسمية, “الشرعية”,!! بطلب منحة علاجية، أو دفع تكاليف العلاج لمثل هكذا حالات من ميزانية الدولة، وهذا حق وواجب على هذه الجهات الرسمية، والحزبية، وليس منة من أحد، تجاه, رموز الفكر والثقافة والأدب، ومن أفنوا زهرات أعمارهم في خدمة الوطن والدفاع عنه في أصعب الظروف.. ولكن لا حياة لمن تنادي! فهم، “شرعية وهمية”، وقيادات أحزاب، جميعهم مشغولون بهمومهم ومطالبهم الذاتية الخاصة من خلال علاقتهم بالسلطة التي ينخرها الفساد من جميع جهات جسد السلطة/ الدولة المهترئة/ المتآكلة والمتهالكة.. السلطة المسمى زوراً “شرعية”!!، وهي حقاً وفعلاً بدون أي شرعية أو مشروعية اجتماعية أو قانونية، بل هي لاوطنية ولادستورية، ولذلك لا يهمها أمر المجتمع وخدماته الاجتماعية: مرتبات، كهرباء، ماء، صحة، علاج,, ولذلك يموت الرجال الشرفاء والأنقياء جوعاً ومرضاً أو في انتظار الموت كحالنا مع المئات من كوادر الدولة وقيادات الأحزاب غير المشاركة في لعبة فساد السلطة، في فنادقهم في منافيهم الاختيارية.
اليوم- مع الأسف – يتراجع دور الأحزاب، إلا في بعض المنظمات الخارجة عن سرب القطيع .. يتراجع دورها في بلادنا بسبب قياداتها المتكلسة ” الزبائينية”, لصالح، أما القوى التقليدية: ( المشائخية/ القبائلية، والطائفية، والمناطقية، الجهوية), التي يشتغل لصالحها الداخل، والخارج الإقليمي، والدولي، أو لصالح شباب وجماعات التواصل الإجتماعي الثورية الجديدة، في اتجاهاتها المختلفة، التي تغزو العالم/ عالمنا ، بدون سند داخلي، ومعارضة خارجية، وفي حال استمرار وضع الأحزاب، وقياداتها في الاستقالة عن دورهم الفكري والسياسي والوطني التحرري، فإن العاقبة ستكون وخيمة ليس على الأحزاب، بل وعلى مستقبل كل الوطن، وجميع المؤشرات المنظورة لا تبشر بالخير، إن لم يفاجئنا الشباب بشيئ انقلابي ثوري جديد، يواصل إبداعياً ما كان في فبراير، ٢٠١١م .. وكل الاحتمالات مفتوحة في كل الاتجاهات.
وفي هذا المقام، ونحن نتحدث عن توالي رحيل القامات الكبيرة من المثقفين والأدباء والسياسيين غيرالملوثين بفساد السلطة وانحطاطها في صنعاء وعدن، وفي سلطة عدن تحديداً وخصوصاً لا يسعني سوى تقديم جميل الشكر للصديق الصدوق، صاحب المبادرات الاخلاقية والاجتماعية /الإنسانية، د. حمود العودي، الذي بادر من تلقاء نفسه بالاتصال بالإنسان / نبيل هائل سعيد أنعم، والذي تكفل مباشرة بدفع جميع تكاليف علاج الصديق الشاعر الكبير د. سلطان الصريمي، بل وأبدى استعداده لتحمل جميع تكاليف علاج الشاعر الكبير، حتى اعلان استعداده لشراء بعض الأجهزة الطبية الخاصة لمتابعة حالة الشاعر في حال حاجته لتلك الأجهزة بعد خروجه من المشفى ليتم استخدامها وهو في منزله بعد خروجه سالماً كما كنا نتمنى جميعاً, على أن يد القدر كانت أسبق في اختيار الجياد منا لأن الموت نقاد، كما يقول الشاعر.
إن ذلك الكرم الجميل من ابن هائل / النبيل ليس آت فقط من الشجرة الطيبة التي غرسها الأب طيب الذكر، بل ومما اكتسبه الأبناء من التربية الأسرية والاجتماعية والثقافية، التي تشكلت ضمن علاقات اجتماعية خاصة وعامة تربى عليها هؤلاء الأبناء، فكانت جزءاً من سلوكهم اليومي/ الحياتي في العلاقة مع ناس المجتمع، وهو ما كان في سلوك وموقف نبيل هائل في حالتنا مع الصديق الشاعر د. سلطان الصريمي.
إنه رأس المال الاخلاقي والقيمي والإنساني الكامن والراسخ في قاع وعي وثقافة أبناء ذلك الرجل الكبير، الذي رحل ليبقى اغنية، وليستمر في تذكيرنا أن الجمال في الحياة هو العطاء بلا حدود، ودون غرض، والعطاء في هذا المقام هو الخلاصة المكثفة لمعنى الحب، ذلك أن أجمل تعريف واسع وعميق لمعنى ولمفهوم “السعادة”، إنما هو العطاء، وليس جشع مراكمة المال.
العطاء هو الحكاية الإنسانية التي لا تنتهي .. العطاء هو الحب الذي يزيد ولا ينقص، ومن هنا اصراري في التأكيد على القول، أن شهوة جمع ومراكمة المال كيفما اتفق، كما هو عند بعض رجال المال والأعمال، هي عملية ضد الحب في الحياة، وبالنتيجة ضد الإنسانية، وهم الذين لايتبقى منهم بعد رحيلهم سوى ذكرى غير طيبة تشير أليهم.
حين كان الشاعر د. سلطان الصريمي يعاني متاعب المرض الذي أنهك جسده طيلة السنوات العشر الأخيرة، وكانت أسرته تعاني معه دون سند.. حتى وصوله للإسعاف الاضطراري إلى المشفى وتوسلنا جميع الجهات الرسمية في عدن وصنعاء، وفي عدن تحديداً وخصوصاً دون جدوى، وكان “كرم” رئاسة ما يسمى “الإنتقالي الرئاسي” هو (5500) ريالاً سعودياً! تصوروا: هذا كان قمة عطاء رئيس ما يسمى”المجلس الإنتقالي الرئاسي”، د. رشاد العليمي، ( زميل دراستي الجامعية), تقديم ما يساوي ( 750) ألف ريال)، وكأنهم يتعمدون إذلال وإهانة الشاعر حتى وهو يواجه شراسة وقسوة المرض حد الموت، بينما هم يعيشون في بحبوحة ترف وبذخ العيش السفيه ويعالجون أنفسهم وأولادهم، وعشيقاتهم “المرموقات”، من “نزلات البرد العابرة”, ، أو من “الإجهاض”, في أرقى المشافي في العالم، وبمئات الآلاف من الدولارات وعلى حساب الدولة، ويدرسون أولادهم في أرقى الجامعات من منح الدولة الخاصة، ” وزارة التعليم العالي والبحث العلمي”, بعد أن صار فسادهم معلن وتمتلئ به الصحف وبالأرقام ، بالملايين بل وبمليارات الريالات، والعديد منهم لديهم شركاتهم الخاصة، النفطية والغازية والتجارية والمالية، التي يديرها أولادهم ورموز الفساد التابعين لهم .. وبعضهم تجار سلاح وغيرها من ألوان التجارة غير المشروعة، ناهيك عن المتاجرة بسيادة البلاد واستقلالها الوطني!!
والمؤسف بل والمخجل أن قيادة حزب سلطان (الإشتراكي)، وبعد رحيله منسياً، ومقهوراً ومغبوناً، ترسل مبلغ – كما سمعنا – (700) ألف ريال يمني (تكاليف إقامة فعالية احتفائية، وطبع كتاب أربعينيته، وأجور تنقلات).. إلى هذه الدرجة وصل بهم حال الاستهانة بحياة قادة الحزب وكوادره الذين يرحلون تباعاً وهم يعانون المرض حد الموت دون سند، سوى بيان النعي الجاهز بديباجته الواحدة، من خمس سطور على وسائط التواصل الاجتماعي وكأنهم كانوا ينتظرون سرعة موتهم.
بينما تكلفة طباعة كتاب أربعينية بحجم متوسط تزيد تكلفته على المليوني ريال.
وأنا هنا لا أعتب على منظمة صنعاء، ولا على اللجنة التحضيرية من الشباب الذين بادروا مشكورين في اصدار تلك ” الملزمة”، فذلك ما أتاحه ما تبقى من مبلغ الـ 700 ألف ريال، في واقع الغلاء والإرتفاع الجنوني للأسعار.
وكنت أتمنى على قيادة الحزب الأشتراكي لو استمرت في الصمت والتجاهل كعادتها وديدنها عن عناء إرسال ذلك المبلغ التافه، كان أكرم وأشرف لهم، ولكنه الإمعان في الإذلال والإهانة بعد أن صارت قيمة من يرحلون من قيادات وكوادر الحزب، في الداخل وحتى في الخارج من الشرفاء والذين يقاسون أبشع أنواع القمع والقهر والحرمان، هو بيان النعي الذي يطول أو يقصر حسب مكانة الراحلين العظماء من خيرة أبناء هذا الوطن.
التحية للأستاذ / نبيل هائل لموقفه الإخلاقي والإنساني النبيل، والذي تناهى إلى سمعنا، أنه تبنى –كذلك– طبع كتاب محترم يليق باسم ومكانة الشاعر الكبير، ويوثق لأربعينيته، ولبعض أعماله الشعرية والفكرية، وهو استثمار في البعد الاخلاقي والقيمي، يضاف لرصيدهم في المجال الإجتماعي والثقافي.
الرحمة والخلود لصديق العمر, في رحلة التعب الجميل، الشاعر د. سلطان الصريمي! الذي عاش كبيراً ورحل عظيما، كما اختار، متوجاً بمحبة الناس في كل البلاد، وفي خارج اليمن.
وكل الامتنان والمحبة للصديق العزيز، صاحب المبادرات الإنسانية الجميلة د. حمود صالح العودي، في رسائله / مناشداته النبيلة التي كانت تدعو وتطلب نجدة الشاعر د. سلطان الصريمي، (في أكثر من رسالة), وعدم تركه وحيداً في محنته مع المرض، ودون سند، فكانت رسائله/ نداءاته وحدها، تدل على أننا أمام إنسان جميل وكبير، في مقابل قامات صغيرة على الطرف الآخر، لم تلتفت لكل تلك النداءات/ المناشدات، ذلك أنها مشغولة بالأهم، و”العظيم”, وهو نفسها ومصالحها الخاصة.
ولا نامت أعين الفاسدين والانتهازيين، الصغار في كل شيئ، و”الكبار “, فقط، في الإلتفات لمصالحهم الشخصية، بعد أن استقالت قيادات الأحزاب عن دورها، وألحقت الأحزاب بسلطة “المثامنة”, الفاسدة, والمعينة من الخارج.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news