في كل جماعة أو مجتمع يوجد أشخاصا اذكياء نافذي البصر والبصيرة لا ينساقون مع المزاج والانفعال العمومي ويتمتعون بحس نقدي سليم ويفهمون المعنى المحتجب عن واقع الحال والمآل قبل غيرهم ولا ينافقون أحد ولكنهم إذا ما قالوا رأيهم فيما حدث وفيما يحدث وفيما يتوقع في قادم الأيام بصدق وتجرد لا أحد يفهمهم وبل ربما نالهم غضب وعداوة المستفيدين من الوضع القائم حينها ومع مرور الأيام وخراب كل شيء يصل الناس اخيرا إلى ما وصل اليه الأولون مبكرا ولكنهم يفهمون ويصلون بعد فوات الأوان وبعد إن تعقدت الأمور وصارت شديدة الحساسية والتوتر وقابلية للانفجار. وهكذا تدار الأمور في المجتمعات العربية التقليدية وفي أصلها وفصلها اليمن السعيدة بنخبها الكارثيةزالتي لم تتمكن بعد من تقعيد السياسة في مجالها الصحيح بوصفها ادارة الشأن العام بالدستور والنظام واالدوران في ذات المكان مثل جمل المعصرة الذي يحجب بصره عن الرؤية ! وبهذا المعنى جاء المثل الشعبي: جمل يعصر وجمل يأكد العصارة! وكلما زاد احتكاك الأفراد والجماعات والحساسيات والمصالح ببعضهم، كلما إتسعت رؤيتهم للعالم والحياة والتاريخ فالاحتكاك ليس حدثا عابرا في حياة الكائنات، بل هو لحظة فائقة من لحظات احتدام الذوات في عالم الممارسة الاجتماعية. تمتزج فيها الأجساد والسياسات والمعتقدات والقيم والعادات والمواقف والافكار والتطلعات والآمال . والآخر مرآة الذات. ولا ينكشف حجب الذوات عن ذاتها الإ بالاحتكاك المباشر بين الفاعلين الاجتماعين في مكان وزمان متعيين في حاضر فوري مباشر حيث الحياة بلا مزايا أقصد تلك الحياة التي نمنحها تسعة أعشار وقتنا الذي نعيشه في عالمنا الواقعي المعيشي الفوري، بلا ماض ولا مستقبل، والتي تشكل فعلاً عصب الجسد الاجتماعي برمته التي يسميها عالم الاجتماع جلبر دوران “بالجو الخانق” وفي السياسة والحياة الاجتماعية المشتركة لا يمكن فهم الناس وحقائقهم بما يقولون أو يعتقدون هم عن أنفسهم بل بما هم عليه في الواقع ويفعلونه حقا وفعلا في عالم الممارسة الفعلية الحيوية الفورية المباشرة، أي الحكم على الناس بما يفعلونه بعد محو الأشباح الإيديولوجية والأوهام السحرية التي تثيره الشعارات والأوهام والخزعبلات الفضفاضة يجب النظر إلى السياسية بوصفة ممارسة قوة واقعية وضرورة حيوية لا تحتمل الفراغ في عالم الممارسة والممارسة بالذات هي كلمة السر هنا! لأن الممارسة ليس مثالاً غامضاً أو أرضية تحتية للتاريخ أو محركاً خفياً بل هي ما يفعله الناس حقاً وفعلاً فالكلمة كما يقول الفرنسي بول فين :” تعبر بوضوح عن معناها ” وإذا كانت بمعنى من المعاني (محتجبة) كالجزء المحتجب من جبل الجليد، فذلك هو ما تجهد القوى المهيمنة والمتسلطة والقابضة على السلطان والنفوذ في إخفائه على الدوام بما تثيره من زوابع ونقع كثيف يظلل أرض المعركة بالدخان والغبار، وهذه هي الوظيفة الجوهرية للايدولوجيا السياسية، إنها العمل الدءوب على إخفاء وحجب الواقع السياسي الفعلي في عالم الممارسة المتعينة وبهذا المعنى نفهم عبارة روجيس دوبرية البالغة الدلالة في كتابه المهم؛ نقد العقل السياسي التي وضعها على غلافه وموداها “”طويلاً ما أخفت السياسة عني السياسي” إنها تخفيه، ليس بمعنى ما يخفي القطار قطاراً آخر، بل بمعنى أن أي قطار يخفي السكة التي يجري عليها. هناك مسافات كثيرة وفضاءات متعددة وأسطح مختلفة ولكن هنا سكة حديد واحدة مهيأة لسير جميع القطارات”
ساظل أكرر القول أنه من المهم التمييز بين كلمتي السياسة والسياسي, إذ أن الخلط بينهما يشوش الرؤية, فاللفظ سياسي يشير إلى الكائن الإنساني بوصفه كائناً اجتماعياً أو مدنياً حسب أرسطو وابن خلدون بمعنى الحياة المشتركة للناس في المجتمع أو ما يعرف بالشأن العام , بينما تشير لفظة السياسة إلى عملية إدارة الشأن العام بوصفها علاقات قوى , وبهذا يمكن لنا فهم عبارة روجيس دوبرية, ” طويلاً ما أخفت السياسة عني السياسي. إنها تخفيه, ليس بمعنى ما يخفي القطار قطاراً آخر, بل بمعنى أن أي قطار يخفي السكك التي يجري عليها. هناك مسافات كثيرة, وشرعات كثيرة, ولكن هنا سكة حديد واحدة, أو سكة صليب”نفهم من ذلك أن وجود السياسي في المجتمع هو وجود شبه ثابت في بنية المجتمع الأساسية, مثل بنية القرابة, والأسطورة وهذه القرابة المزدوجة بين السلطان السياسي والميثولوجيا والشبق الجنسي, نابعة بالتحديد من أن زمن الخرافة وزمن غريزة الحب شريكان في البنية ذاتها, بنية التكرار؟ وهكذا نفهم الصلة الدائمة بين السياسة والدين والمجتمع بوصفها صلة راسخة الجذور في الكينونة الأولى للكائن الاجتماعي الديني السياسي. وقد اختلفت تعريفات السياسة, فالبعض يعرفها(بتسويس الأمر)أو ب(فن الحكم) أو (فن الممكن) أو (تدبير الشأن العام) والبعض يعرفها(بالخلافة أو السلطان أو الوازع أو تدبير الملك) حسب أبن خلدون وأخر يعرفها ب(العقد المدني أو الإرادة العامة) أو(طريقة الوصول إلى السلطة واحتكار القوة) أو (علاقات القوة والهيمنة) حسب ميشيل فوكو ..الخ. وإذا ما كان علينا صياغة تعريفاً إجرائيا لمعنى السياسة فيمكننا القول: بأنها تلك المؤسسة الجامعة ( مؤسسة المؤسسات) الدولة التي تحتكر حق استخدام القوة وتضطلع بتنظيم شؤون مواطنيها بوصفهم جمهوراً أو شعباً أو مواطنيين, يتمتع جميع إفراده بأهلية وقيمة واقعية واعتبارية متساوية في الحقوق الأصلية, وحماية بعضهم من بعض وتأمين حياتهم وصون سيادتهم بما يحقق استقرارهم ونماءهم وازدهارهم.
وهكذا يمكن القول إن الوجود السياسي للناس هو الأمر الجوهري في تأسس الدولة الوطنية العامة ولا شأن له بالشعارات والرايات والأسماء والصفات الايديولوجية المختلقة التي يطلقها الناس على انفسهم والآخرين من قبيل؛ وطني وغير وطني جمهوري وغير جمهوري وحدوي وانفصالي الرعاة والرعايا السادة والعبيد ..الخ تلك هي فقاعات تتصل باللعبة السياسية المفترضة بعد تأسيس المجال السياسي الذي كان يجيب أن يحتوي كل المواطنين على درجة متساوية من القيمة والجدارة والأهلية ولا فضل لاحد على أحد في ذلك ابدا فالمواطنة حق وليست مكرمة والعيش المشترك في دولة جامعة للمواطنين القاطنين على الأرض المتعينة لا يتحدد بانتماءاتهم الايديولوجية ومواقفهم السياسية والسؤال ليس هو من هو الوطني ومن هو غير الوطني؟ بل هو كيف يمكن للمواطنين أن يعيشون في وطنهم بكرامة وأمن وسلام؟ وبدون هذا التمييز الدقيق بين السياسي والسياسة تضيع الشعوب والأوطان والحالة اليمنية شاهد حال ومآل. فمن هو الوطني اليوم في اليمن ومن هو الوحدوي ومن هو الجمهوري ومن هو اليمني؟! اسئلة تتصل بالسياسية بعد خراب البيت السياسي الجامع ومن ثم فلا قيمة لها ولا اهمية ولا يمكنها أن تساعد على لملمة الأزمة وجمع الشتات وتدبير الحياة المشتركة للجميع في دولة ذات سياسية. ربما كانت الوحدة اليمنية فرصة سانحة لتمكين المشترك السياسي اليمني بين الجنوب والشمال وبسبب قصر نظر القوى التقليدية المهيمنة تحولت إلى حرب غاشمة ثم تناست إلى ما نراه اليوم من سقوط الجمهورية والدولة والسيادة وعودة الملكية الإمامة وضياع الوحدة وتمزق البلاد والعباد والارتهان إلى قوى خارجية.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news