الحزن كلمة شاحبة حين نحاول استخدامها في مواجهة الخسارات الكبرى. اليوم، يقف العالم أصغر وأقل دفئا بغياب مها ناجي صلاح، الإنسانة، الكاتبة، والشريكة الوفية للحياة التي كرست وقتها وحبها لقصص الأطفال وأحلامهم البسيطة، كما كانت وفية لكل من عرفها.
مها ليست مجرد اسم عابر في قائمة الحياة، بل هي روح نادرة استطاعت أن تمزج في وجودها البسيط بين الطيبة التي تلامس القلب والإبداع الذي يمس الروح. هي التي كتبت عن الحب، عن الفقد، عن الأحلام التي تموت وتلك التي تأبى أن تستسلم. كلماتها كانت دائما كوشم من الحنين على ذاكرة كل من قرأ لها.
قالت: “أريد أن أكتب لوعتي، وخوفي، ورغبتي، وجزعي، وخفقان قلبي.” كيف يمكن لكلماتها أن تظل حية إلى هذا الحد؟ كيف يمكن لروحها أن تعبر عن الألم بصدق يجعلنا نشعر وكأنها كانت تحكي عن أرواحنا نحن، نحن الذين نحمل الآن ألم غيابها؟
مها كانت أكثر من مجرد كاتبة…كانت صديقة للقلوب المتعبة، أما للأطفال الذين وجدت في عوالمهم ملاذا وسببا للحياة. كانت تكتب لهم بحب، ترسم بخيالها أجنحة صغيرة يحلقون بها إلى عوالم أجمل، عوالم تنبض بالألوان والفرح. وربما كانت تعوضهم، وتعوضنا جميعا، عن البؤس الذي يحاصر هذا العالم، عن الأحلام التي ضاعت وعن الأوقات التي لم تعد.
أتذكر مكالمتها يوم أعارتني خمسين دولارا وأنا في طريقي إلى الجزائر عام 2007 ..كم من المرات فعلت ذلك مع آخرين دون أن تُخبر أحدا؟ لم تكن تبحث عن مقابل، بل كانت تبحث عن السعادة في قلوب من حولها.
رحلت مها ناجي صلاح، وترك غيابها فراغا لا يسده إلا ذكريات حافلة بالحب والعطاء. مها، التي كانت في حياتها نموذجا للإنسانة المخلصة، المثقفة، والحالمة، غادرت تاركة أثرا خالدا في القلوب التي عرفتها.
في عام 2010، كانت مها تعمل في بنك كاك، لكنها لم تكن مجرد موظفة، كانت إنسانة تسعى دائما لدعم الثقافة والإبداع. أتذكر جيدا كيف أقنعت البنك بالاشتراك في مجلة انزياحات، تلك المجلة التي كانت منصة للإبداع اليمني الحر. كانت مها تؤمن بأهمية الكلمة، وتفعل كل ما بوسعها لدعمها، ليس فقط من موقعها المهني، بل من إيمانها العميق بدور الأدب في تشكيل المجتمعات.
كانت مها الزوجة الثانية للصديق الشاعر أحمد العرامي، لكنها كانت أكثر من ذلك بكثير. لقد كانت شريكة حياة بكل معنى الكلمة، وصديقة لبناته اللاتي أحبتهن بصدق نادر. لم يكن حبها مجرد علاقة اجتماعية عابرة، بل كان عنوانا إنسانيا يحمل عبق الإخلاص وحرارة المشاعر.
مها ناجي صلاح لم تكن كاتبة فقط، كانت إنسانة بمساحات شاسعة من العطاء والحب. في كلماتها نجد أنفسنا، في أعمالها نُعيد اكتشاف العالم بأعين بريئة كالتي رسمتها في قصصها للأطفال. كانت كمن يُضيء شمعة في ظلام هذا العالم، لكنها اليوم رحلت، وأصبح الظلام أشد كثافة.
حزني على مها لا يمكن أن يُكتب. إنه شعور يتجاوز الكلمات ليحفر نفسه في الروح. أتذكر تلك الأيام التي شاركت فيها الحياة معنا، تلك اللحظات التي ابتسمت فيها رغم الألم، وتلك النصوص التي جعلتنا نؤمن أن الكلمات قادرة على ترميم الحطام.
وداعا مها ناجي، لكنني أقول وداعا أيضا لجزء منا جميعا. وداعا للمرأة التي علمتنا أن الحياة تستحق أن تُعاش حتى حين تُثقلنا خساراتها. وداعا لمن رحلت تاركة وراءها قلوبا تنزف، وكلمات لا تزال تسكن بيننا وكأنها تريد أن تقول لنا: “أنا هنا، في كل ما كتبت، في كل ما أحببت.
رحلت مها ناجي صلاح، لكن أثرها لن يرحل. سيبقى حبرها، وستظل قصصها تحمل بصمة روحها النقية. وسنبقى نحن نحمل ذكراها كجرح لا يلتئم، وكضوء صغير يذكرنا بأن هناك من عاش ليجعل العالم مكانا أفضل، حتى لو لفترة قصيرة.
رحمك الله يا مها، وأسكنك فسيح جناته.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news