في واقعة جديدة تجسد عمق الفساد المستشري في مؤسسات الدولة، كشفت وثيقة رسمية عن الأسباب الكامنة وراء انهيار جزء من الأسفلت على الخط الرابط بين جولة السفينة وجولة الكثيري في العاصمة عدن، وهو مشروع حيوي يفترض أن يعزز البنية التحتية، لكنه تحول إلى نموذج للإهمال وسوء الإدارة.
الوثيقة الفاضحة... والردم "الرخيص"
الوثيقة التي أُفرج عنها مؤخرًا، تشير إلى أن الانهيار لم يكن نتيجة عوامل طبيعية أو قوى قاهرة، بل جاء بسبب قرارات متهورة من الشركة المنفذة لمشروع تمديد أنبوب مياه الصرف الصحي في 2021م، إذ اعتمدت الشركة على إعادة الردم بمواد الحفر نفسها بدلاً من استخدام مواد مستوردة ذات جودة عالية كما نصت بنود العقد. لم تكتفِ بذلك، بل تجاهلت الأثر المحتمل لمياه الأمطار التي وجدت طريقها إلى الطبقات السفلى، مما أدى إلى تآكل البنية التحتية تدريجيًا حتى وصل الأمر إلى الانهيار الكامل للأسفلت.
صندوق صيانة الطرق: الفشل في الدور الأساسي وتحويل المشاريع إلى حملات دعائية
ورغم وضوح الأسباب، إلا أن اللوم لا يتوقف عند الشركة المنفذة فقط، بل يمتد إلى صندوق صيانة الطرق والجسور، الجهة المسؤولة عن الإشراف والمتابعة، وأثبت الصندوق مرة أخرى أنه عاجز عن القيام بدوره الأساسي في ضمان تنفيذ المشاريع بالجودة المطلوبة.
لكن الأمر لا ينتهي هنا؛ فقد أصبح الصندوق منصة للترويج الإعلامي بدلاً من أن يكون مؤسسة تُعنى بتحسين البنية التحتية وخدمة المواطنين، في مشهد متكرر، تُملأ صفحات وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بالصندوق بصور المشاريع قبل وبعد التنفيذ، محاولين تجميل الحقيقة وتضليل الرأي العام.
مشاريع تفتقر إلى الاستدامة وتغرق في مستنقع الفساد
المشهد الحالي يكشف عن نمط ممنهج من سوء الإدارة والفساد داخل الصندوق، فبدلاً من التركيز على تنفيذ مشاريع ذات جودة عالية تدوم لفترات طويلة، يبدو أن الهدف الأساسي هو الانتهاء من المشاريع بأسرع وقت ممكن، بغض النظر عن النتائج، لتحقيق مكاسب سريعة وصناعة صورة إعلامية براقة.
هذه الممارسات أدت إلى هدر مليارات الريالات من المال العام على مشاريع تنهار بمجرد أول اختبار، كما هو الحال مع الطريق الرابط بين جولة السفينة وجولة الكثيري، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف يمكن لمؤسسة مسؤولة عن صيانة الطرق أن تتغاضى عن أبسط معايير الجودة؟ وكيف تتحول المشاريع التنموية إلى واجهات إعلامية فارغة تخدم أجندات شخصية بدلاً من خدمة الشعب؟
الترويج بدلاً من المحاسبة: كيف يُدار المال العام؟
بدلاً من الاعتراف بالمسؤولية أو توضيح الخطوات العملية لمعالجة المشكلات، استغل صندوق صيانة الطرق هذه الكارثة للترويج لإنجازات وهمية عبر منصات التواصل الاجتماعي، بحيث تُنشر الصور والفيديوهات بمصاحبة عبارات مثل "إنجاز جديد" و"خطوة نحو المستقبل"، وكأن الهدف هو إقناع الجمهور بوجود تحسن حقيقي، بينما الواقع يؤكد العكس.
من المفارقات أن الصندوق يتعامل مع المال العام وكأنه أداة شخصية، حيث تُدار المشاريع في بيئة يغيب عنها الرقابة والمحاسبة، بينما تُستنزف موارد الدولة في مشاريع ضعيفة البنية وغير مستدامة، لا يمكن فهم هذه السياسات إلا كجزء من منظومة فساد مترسخة، تتغذى على غياب الشفافية وانعدام المساءلة.
شهادات المواطنين: الطرق تنهار ونحن ندفع الثمن
يعيش المواطنون في عدن معاناة يومية بسبب سوء حالة الطرق، ما يعرض حياتهم للخطر ويزيد من كلفة التنقل. وفي هذا السياق، يقول أحد سكان المنطقة المتضررة: "لقد تعبنا من هذه الطرق التي لا تصمد أمام أمطار عادية، لماذا نسمع عن مليارات تُنفق ولا نرى إلا انهيارات متكررة؟"
ويضيف آخر: "كل مرة ينهار فيها الطريق، يتم ترقيعه ثم ينهار مرة أخرى، نحن نحتاج إلى حلول حقيقية وليس إلى صور ترويجية تُنشر على مواقع التواصل."
المسؤولية الغائبة والمطالب بالمحاسبة
في الوقت الذي تتراكم فيه فضائح المشاريع الفاشلة، لا تزال قيادة صندوق صيانة الطرق تتمتع بالحصانة وكأنها فوق القانون، ويفتح الغياب التام للإجراءات الرادعة ضد المسؤولين عن هذه الإخفاقات الباب لمزيد من الهدر للمال العام.
ويطالب ناشطون ومواطنون بفتح تحقيق عاجل ومستقل في أداء الصندوق، مؤكدين أن استمرار الفساد والإهمال لن يؤدي إلا إلى تعميق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، كما يدعون إلى محاسبة القائمين على المشاريع المنهارة، سواء من الشركات المنفذة أو المسؤولين في الصندوق، الذين سمحوا بتمرير مثل هذه المخالفات.
الطريق إلى الإصلاح: هل من مخرج؟
ما حدث مع الطريق الرابط بين جولة السفينة وجولة الكثيري ليس مجرد حادث عرضي، بل هو انعكاس لواقع إدارة البنية التحتية في عدن واليمن عمومًا، وإذا استمر الوضع على ما هو عليه، فإن الفساد والإهمال سيواصلان التهام موارد البلاد، بينما يظل المواطن هو الضحية الأولى.
الإصلاح الحقيقي يبدأ من مساءلة الجهات المسؤولة، وتفعيل نظام رقابي صارم يضمن تنفيذ المشاريع بجودة عالية، كما يجب إبعاد المؤسسات التنموية عن الاستغلال السياسي والإعلامي، والتركيز على خدمة الشعب الذي يعاني يوميًا من غياب الخدمات الأساسية.
حتى ذلك الحين، ستظل الطرق في عدن تُبنى لتنهار، وسيظل المواطن يدفع ثمن الفساد وسوء الإدارة، بينما تُملأ مواقع التواصل بإنجازات زائفة تخفي تحتها حقيقة مؤلمة لا يمكن تجاهلها.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news