من وحي ندوة (بناء النظام الصحي العربي الحديث)
ربما هي المصادفة التي جعلتني انشغل بثلاثة فعاليات متزامنة بشأن صحة المجتمعات والأفراد؛ الأول قبل أسبوعين في هولندا؛ تمثلت في محاضرات مكثفة بشأن النظام الصحي والرعاية الصحية بالمملكة الهولندية وتمثلت الثانية في المشاركة بالمؤتمر الدولي الأول المزمع انعقاده في عدن بعد أيام حول (المخدرات وتداعياتها على فئات الشباب والمجتمع) تحت شعار (مواجهة ظاهرة المخدرات مسؤولية تضامنية ملحة) ومشاركتي فيه سوف تكون بورقة بحثية بعنوان (الصحة الجسدية والعقلية ومخاطر المخدرات).
والفعالية الثالثة تمثلت في ندوة وحدة الدراسات الطبية والنظم الصحية في المعهد العالمي للتجديد العربي؛ ندوة بعنوان “بناء النظام الصحي العربي الحديث”، قدمها الدكتور محمد ال حسوني رئيس وحدة الدراسات الطبيةً وعقب عليه الدكتور رجائي موسى نفاع، طبيب أسرة مختص في علم الأمراض، وأدارها الدكتور خضير المرشدي رئيس المعهد العالمي للتجديد العربي. وعدد أخر من المعقبين والمعقبات، الباحثين والباحثات لم يتم ذكر أسماءهم في برشور الندوة المنعقد يوم الأحد الموافق 10 نوفمبر 2024م. حرصت على حضورها الاستماع باهتمام للمداخلات التي احتدم النقاش حولها بغرض بناء منظومة صحية عربية كفوءة تحفظ للمواطنين العرب صحتهم وتأمن لهم عافيتهم في مجتمعاتهم. ولما كنت مهتما في العلاقة بين معتقدات الناس وسلوكهم بحكم تخصصي الفلسفي فقد كتبت منذ سنوات تأملات بشأن فلسفة الجسد ونشرتها في الحوار المتمدن بعنوان (حينما يكون الجسد أكثر ادهاشا من الروح) يستند الطب البيولوجي على فرضية أن الجسد الحي يصاب الأمراض وهذا ما يستدعي العلاج ويستند الطب النفسي على فرضية أن النفس الإنسانية عرضه للأمراض وهذا ما يستدعي علاجها وتنطلق فكرة الاستشارة الفلسفية من فرضية أن الأفكار والمعتقدات تؤثر في سلوك الناس فالناس يسلكون وفقا لما يعتقدون. وإذا أعتقدت أن النهر مسكون بالتماسيح والافاعي فلن أعوم فيه وإذا أعتقد أن شخصا ما لا يكذب فسوف أثق به وإذا أعتقدت أن سائلًا ما يبري المرض ويطيل العمر فسوف أشربه، وإذا اعتقدنا أن أن النساء شريرات وماكرات فمن المؤكد إن نظرنا اليهن ومعاملتهن سوف تختلف عما إذا اعتقدناهن أجمل ما خلق الله وأنهن أكثر إنسانية مننا وإذا اعتقدت بإن جيراني يحسدوني وأن عيونهم الشريرة قد تصيبني اثناء خروجي أو دخولي منزلي فمن المؤكد أن علاقتي معهم سوف تتعقد أكثر. وإذا اعتقدت بإن الروح أهم من الجسد فسوف اهمل جسدي حتى يترهل وتصيبه الأمراض وإذا أعتقدت بأني محتاج إلى وظيفة تليق بي فسوف أبحث عنها حتى أجدها إما إذا فقدت الأمل بالحياة والمستقبل فلن أبحث عن أي وظيفة أبدا. وإذا اعتقدت بإن هذا الدنيا لا تسوى عندي جناح بعوضة كما هي عند الله سبحانه وتعالى فسوف يصيبني الكسل والخمول وفقد دافع السعي والكفاح فيها. الفكرة إننا نسلك وفقًا لما نعتقد. وحينما تكون معتقداتنا صحيحة وصادقة، نستطيع أن نحدث قدرًا كبيرًا من التقدم. أما إذا كانت معتقداتنا خاطئة فإنها تعوق هذا التقدم وتحبط آمالنا، وتعرض الحياة الإنسانية ذاتها إلى الخطر” ولقد ذهب كل جيل ضحية لمعتقداته ولخرافاته وأوهامه وأساطيره وحينما تكون تلك المعتقدات الضالة مدعمة مؤسسيا فأثرها يكون كارثيا واليكم الدليل “تأخرت المطبعة زهاء قرنين ونصف على معظم شعوب العالم الإسلامي بسبب فتوى واستمر الجدل الفقهي حول شرب القهوة قرابة قرنين ، تخللتها أحداث شغب ومطاردات وحوادث قتل وإغلاق مقاه وإحراقها والتشهير بمرتاديها ! وفي مجال آخر أعتبر مياه الصنبور أو كما تسمى (الحنفية) في بدايتها بدعة وضلالة ولا تصلح للوضوء منها. وإذا كانت الدراجة الهوائية البسيطة عدًها البعض حصان إبليس، فإن الطماطم عدها البعض الآخر بمؤخرته. وفيما كانت جميع التقنيات الألكترونية والكهربائية وسائل شيطانية يديرها الجن والأبالسة وتهدف إلى غزو عقول المسلمين وإفسادها ونشر الرذيلة والمنكرات، فإن حملات التطعيم المحمودة ضد شلل الأطفال، رأى البعض مخطئٍا أنها مؤامرة صهيونية تستهدف فحولة رجال المسلمين وخصوبة نسائهم حتى يتناقص عددهم ويسهل بعدها احتلال بلادهم بحسب أنيس الحبيشي.
على كل حال لقد وجدتها فرصة لجمع تأملاتي وافكار بشأن فلسفة الصحة والعافية إليكم ما تيسر من الفكرة: إذ يعد خطاب الصحة الاجتماعية عامة والصحة النفسية خاصة من أهم الخطابات التي أخذت تزدهر في الدوائر الثقافية والإعلامية والأكاديمية المعاصرة، إذ شهد المجال الصحي اهتماما منقطع النظير، لا سيما منذ منتصف القرن العشرين بما جعلنا نتوافر اليوم على خطاب غني بالدوال والدلالات وبالفاعلين والأفعال والقوى والعلاقات والمؤسسات والممارسات (الصحة والمجتمع، الصحة العامة ،الصحة والمرض، الوقاية والعلاج الصحي، الوعي الصحي، الثقافة الصحية، الحياة الصحية، صحة المرأة، الصحة الإنجابية، صحة الطفل، التغذية الصحية، الصحة المدرسية، صحة العائلة، السياسة الصحية، التأمين الصحي، الاقتصاد الصحي، الإدارة الصحية، العلوم الطبية، الطب الشعبي، الطب البديل، الطب الحديث، حقوق الإنسان الصحية، علم اجتماع الصحة، الديمغرافيا الصحية، السكان والصحة، علم اجتماع الجسد، علم الأوبئة، فلسفة الصحة، علم النفس الصحي، الانثروبولوجيا الصحية، علم التربية الصحية، الصحة المدرسية، الخدمة الاجتماعية الصحية، سوسيولوجيا المؤسسة الطبية، علم الاجتماع الطبي، علم اجتماع الجريمة، علم اجتماع الإدمان، والانحراف. فضلًا عن مجالات التطبيب والعلاج والأدوية والأدوات والأجهزة والتشريعات الصحية والمؤسسات الرسمية والمدنية (منظمة الصحة العالمية، والهلال الأحمر، وأطباء بلا حدود، ووزارات الصحة، والنقابات الصحية، والإعلام الصحي المكتوب والمسموع والمرئي.. الخ )
على هذا النحو أضحت الصحة وخطابها تتخلل مختلف مجالات حياة الإنسان المعاصرة (الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية والأخلاقية والجمالية والدينية..الخ). فعلى الصعيد الإبستيمولوجي غدت الصحة ومشكلاتها لأول مرة في تاريخها موضوعاً للعدد واسع من العلوم الاجتماعية والإنسانية ولم تعد حكرا على العلوم الطبية كما كانت في الماضي. وهكذا بدأ الأمر وكأننا بإزاء اكتشاف جديد للكائن الإنساني وحياته وصحته بوصفه كائنا جديرا بالحياة الصحية الطيبة كحق من حقوقه الأساسية المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواثيق الدولية.
والسؤال هو: كيف يمكن فهم وتفسير هذا التحول الثوري في خطاب الصحة الاجتماعية والطب الحديث؟ وما هي الأسس الثقافية التي مهدت السبيل لنموه وتبلوره وازدهاره في الحضارة الحديثة والمعاصرة؟ وما معايير قياس صحة الفرد والمجتمع؟ وكيف هو حال صحة مجتمعاتنا العربية الإسلامية اليوم؟ هذه الأسئلة وما يتصل بها من مشكلات هي ما سوف نوليه عنايتنا في بحثنا الموسوم ب (الأسس الثقافية لخطاب الصحة الاجتماعية) لقد تساءل أحد الباحثين العرب “هل للمناخ الثقافي العام.. تأثير في الممارسات أو التصورات الطبية عن المرض والصحة أو الجسد والنفس؟ هل للطب علاقة بنوع الرؤية الكلية التي يتبناها المجتمع؟ هل بالإمكان معاينة الطب بوصفه ممارسة تأويلية، يكون الجسد هو نصها، والشفاء هو بمثابة البحث عن المعنى، وعمليات العلاج هي ذاتها عمليات قراءة النص؟ هل بالإمكان معاينة الطب من منظور علاقات القوة والمعرفة، بحيث يكون الطب معرفة وأداة من أدوات الهيمنة؟ هل بالإمكان المقارنة بين “التعددية الثقافية”، وما يمكن تسميته بـ”التعددية الطبية”؟ وأخيرا هل بإمكاننا النظر الى الطب والممارسة الطبية من منظور مغيار ومن أفق مختلف عما هو سائد اليوم؟”.
على مدى السنوات القريبة المنصرمة تزايد الانشغال بموضوع الصحة والمجتمع وبات خطاب الصحة يزخر بسيل منهمر من الدراسات والأبحاث من مختلف فروع المعرفة وتخصصاتها العلمية الطبيعية والإنسانية والاجتماعية والدراسات الثقافية والنقد الثقافي بما يجعل الباحث المعاصر في المشكل الصحي يتوفر على حقل غني بالمصادر والمراجع والمعلومات التي يمكن الرجوع اليها في بحث ودراسة مشكلات هذا المجال الحيوي. وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى الإطار المرجعي لبحثنا في الآتي: ديفيد ارنولد، (الطب الإمبريالي والمجتمعات المحلية) ميشيل فوكو (المراقبة والعقاب) و(ميلاد العيادة) و (تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي) و(يجب الدفاع عن المجتمع) و (تاريخ الجنسانية إرادة العرفان) و (حفريات المعرفة) و(الكلمات والأشياء) ورتشارد غ. ولكنسون (المجتمعات غير الصحية: علل عدم المساواة) والفين توفر (صدمة المستقبل) و (تحول السلطة) و (حضارة الموجة الثالث) ونجلاء عاطف خليل (في علم الاجتماع الطبي: ثقافة الصحة والمرض) تالكوت بارسونز(دور المريض في المستشفى وتغير أنماط واجباته وحقوقه) وكلودين هيرزلتش (التمثيل الاجتماعي للمرض) وأدوين ليميرت (المرض الاجتماعي )وديفيد ميكانيك ( الإجهاد والسلوك المرضي والمريض) و (علم الاجتماع الطبي) وأبيل سميث (تاريخ مهنة التمريض) وماكس بيروتي (ضرورة العلم: دراسات في العلم والعلماء) وعبدالمجيد الشاعر (علم الاجتماع الطبي) وإحسان محمد الحسن (علم الاجتماع الطبي) ومحمد الجوهري وآخرون (علم الاجتماع الطبي) وأنتوني غدنز (علم الاجتماع ) وشيلي تاليور (علم النفس الصحي) وأميتا صن(التنمية حرية: مؤسسات حرة وإنسان متحرر من الجهل والمرض والفقر) وديفيد لوبروتون (انثروبولوجيا الجســــد والحداثة) ومريم وحيد (الجسد والسياسة) وكرس شلنج (الجسد والنظرية الاجتماعية)و صوفيّة السحيري بن حتيرة. (الجسد والمجتمع، دراسة أنتربولوجيّة لبعض الاعتقادات والتصوّرات حول الجسد)، وخالد فهمي (الجسد والحداثة: الطب والقانون في مصر الحديثة) وكولدين هيرزليتش (التمثل الاجتماعي للمرض) واحمد محمد بدح وآخرون ( الثقافة الصحية) ونادر كاظم (ايديولوجيا الطب الحديث) ومحمود شريف بسيوني، (الوثائق الدولية المعنية بحقوق الإنسان في مجلدين) والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان وتقارير ومنشورات منظمة الصحة العلمية والمجلات والدوريات الصحية العربية والدولية وغير ذلك.
في الواقع لم تكن التحولات الجذرية في خطاب الصحة الفردية والاجتماعية إلا حصيلة متغيرات ثقافية وتاريخية عميقة شهدتها الحضارة الحديثة منذ عصر النهضة الأوروبية في النظر إلى الإنسان وجسده وكرامته وحقوقه وذلك انطلاقًا من قانون الحياة الجوهري (الحفاظ على البقاء ومقامة الفناء) حلم الإنسان منذ اقدم العصور بالعثور على وصفة سحرية للخلود وديمومة الشباب والصحة والعافية والقوة فيما عرف ب (أكسير الحياة) أو حجر الفلاسفة، وهذا ما حملته لنا اقدم أساطير حضارات بلاد الرافدين وحضارة مصر القديمة. ورغم التاريخ الطويل لحياة الإنسان على كوكب الارض وصراعه مع الأوبة والإمراض والموت المبكر إلا انه ظل يجهل الاسباب المحتملة للصحة والمرض وتكشف الأنثروبولوجيا التقليدية إن التوقف من أجل تعيين الكائن الإنساني في ماهيته قد أنساها مسألة كينونته إذ اعتبرت هذه الكينونة بمثابة تحصيل حاصل؛ فالإنسان وفقًا للتصور التقليدي ينقسم في كينونته إلى شطرين لا يلتقيان (روح وجسد) جسد ينتمي إلى (عالم ما تحت فلك القمر)، عالم دنيوي حسي زائل يعتريه الكون والفساد، وروح ، أو نفس أو عقل، ينتمي إلى (عالم ما فوق فلك القمر) عالم متعالى الهي أزلي خالد ثابت لا يعتريه التغيير والكون والفساد، هذا (الباراديم) أو التصور اللاهوتي الميتافيزيقي الكلي للإنسان المشطور، هو الذي ساد الفكر ما قبل الحديث إذ “اعتبر الجسد في مختلف التصورات الميتافيزيقية موطنًا للشرور وبؤرة للدنس والرذيلة، لهذا تمت معاملته باحتقار كبير وتم السعي فيما بعد إلى ستر عيوبه، ولازال الحديث عن مفهوم العورة لصيق به في كثير من الثقافات المجتمعية” ولما كانت الروح ذات طبيعة غير حسية وغير متاح مشاهدتها واختبارها في الواقع ظلت مثار دهشة الانسان وحيرته وحظيت باهتمام العلوم والأديان والفلسفات، في حين أن الجسد لم يحظ إلا بالقليل القليل من الاهتمام والقيمة والأهمية “إذا لم يكن في الإمكان التعرف على شيء بصورة واضحة فلن يحدث آنذاك إلا أحد أمرين: إما ألا نصل أبدا إلى المعرفة، وإما إلا نصل إليها إلا بعد الموت” وهنا تتجلى خطورة الاعتقادات والتصورات والآراء والأوهام والعادات الثقافية التي تترسخ في حياة الناس ويتوارثوها جيل بعد جيل كأنماط ونماذج للسلوك أو ” هابيتوسات” حسب عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو, يقول عالم النفس التربوي الأمريكي “أرثر كوفر” في كتابه “خرافات في التربية” “يسلك الناس وفقًا لما يعتقدون.. وحينما تكون معتقداتنا صحيحة وصادقة، نستطيع أن نحدث قدرًا كبيرًا من التقدم. أما إذا كانت معتقداتنا خاطئة فإنها تعوق هذا التقدم وتعرقل صيرورته، وتعرض الحياة الإنسانية ذاتها إلى الخطر”3”. ولقد ذهب كل جيل ضحية لمعتقداته ولخرافاته وأوهامه وأساطيره، فحينما اعتقدت الحضارات القديمة أن الروح أو العقل هي الجوهر الخالد في الإنسان الذي يبقى بعد موت الجسد الفاني الفاسد الملوث بالآثم والخطيئة والرغبة والشهوة والطمع كان من شأن هذا الاعتقاد؛ أن عمق الهوة بين الإنسان وجسده، بين روح الإنسان وجسمه، فحينما اعتقد الصينيون القداماء أن الكون ينقسم إلى الين واليانج، أي الأنوثة والذكورة، اليانج يرمز إلى مبدأ الذكورة والعنصر الايجابي الفعال المنتج السماوي وعنصر الضوء والحرارة والروح والحياة, والـيين يرمز إلى الأنوثة العنصر الحسي، الأرضي السلبي المنفعل، عنصر الظلمة والبرودة والعجز والموت، وحينما اعتقد قدماء الهنود أن الجسد وشهواته الحسية هو مصدر كل الالام والخطايا ازدهرت لديهم ثقافة (النيرفانا) البوذية الجاينية، بمعنى بلوغ الروح اقصى حالات الصحة والسعادة بعد انطفاء الرغبات الجسدية. وحينما أعتقد أهل اليونان أن العقل يحكم الكون وانه من عالم المُثل, وان الرجل هو الكائن العاقل الوحيد وان المرأة كائنا حسيا غير عاقل لم يكتفوا بترير النظرة الدونية للمرأة والعبيد وكل ما يتصل بالجسدية العضوية بل ذهبوا إلى تأسيس منظومة فلسفية ثقافية متكاملة لشرعنة هذا الاعتقاد والنظر اليه بوصفه حقيقة بديهية ومسلمة طبيعية لا تحتمل الشك والتساؤل، ومن هذه الأسطورة الافلاطونية التي تحتقر الجسد تناسلت فيما بعد مختلف المدارس والاتجاهات الفلسفية واللاهوتية الابقورية والرواقية والمسيحية والافلوطونية والقنوصية والإسلامية التي نظرت إلى الإنسان وحياته وصحته من زاوية احتقار الجسد وتعظيم الروح، بما يعني أيلى كل الاهتمام لعالم الموت وما بعد الموت والخلود السرمدي وإهمال عالم الحياة الدنيوي السريع الزوال. تلك النظرة العامة هي التي هيمنت في فضاء الثقافة والفكر الإنساني حتى مطلع العصور الحديثة.
وهكذا يتضح أن سلوك الناس وتفاعلاتهم وعاداتهم وتفضيلاتهم وأفعالهم وردود أفعالهم ومؤسساتهم ونظمهم وتقاليدهم لا يمكن تفسيرها وفهمها من خلال تمظهراتها المباشرة، بل لابد من الذهاب إلى ما ورائها، من المنطلقات الإعتقادية الايديولوجية والفكرية أو بكلمة واحدة (الثقافة السائدة) إذ أن اعتقادات الناس في أي زمان ومكان ليس مجرد أفكار أو تصورات معنوية وكلمات ومفاهيم معرفية مجردة، بل هي نتاج قوى وسياقات اجتماعية وسياسية وثقافية نشاءت وترسخت عبر مسار طويل من الممارسات والخبرات والتجارب في أنماط سلوك وعادات وتقاليد أو على حسب بورديو (هابتوسات) بمعنى عادة أو طبع أو نسق الاستعدادات والتصورات اللاشعورية الثقافية الانثربولوجية التي تبقى بعد نسيان كل شيء. فكيف كانت النظرة الحديثة للإنسان وحياته وصحته. ولم يكن الطب في أغلب الثقافات عبارة عن ممارسة علمية منضبطة، ولم يكن، كما يكتب فوكو في (الانهمام بالذات) “مفهومًا فقط كتقنية تدخلية تستعين، في الحالات المرضية بالعلاجات والعمليات الجراحية.. بل كان شبكة من المعارف المختلفة التي تشمل علوم الجسد والنفس والفلك والأخلاق والنباتات والفلسفة والمعارف الدينية والسحر والكيمياء وحالات البيئة (برودة، حرارة..) وحتى الهندسة والخطابة”. لقد لخص ميشل فوكو وضع الانسان في العصور الحديثة بعبارة ذات دلالة عميقة حينما كتب أن الانسان اكتشاف حديث العهد إذ إنه لأول مرة في التاريخ يجد نفسه بازاء قوى التناهي والاشتباك معها كقوى خارجية عن ذاته الانسانية المتناهية، اذ ذاك كان على قوى الانسان أن تتصدى للتناهي خارج ذاتها، ومن تم لتجعل منه في مرحلة ثانية، تناهيها هي، فتعيه حتماً كمتاه خاص بها. وحينئذ كما يقول فوكو, يركب معها الشكل – الانسان (وليس الشكل الله) وتلك بداية الإنسان. أن مسألة نمو وازدهار خطاب الطب والصحة ليست مسألة علمية فنية خاصة بالمجال الصحي بل تتعين في تلك المجالات التاريخية الحضارية والمدنية والثقافية الواقعة خارج النسق الطبي.. حيث يتأمل البشر طبيعة الكون والإنسان بأعمق معانيها وأشدها غموضا، وحيث يخلق الخيال الإنساني المؤسسات التي تسمح للأفراد بالاستمتاع على الدوام بالفضاءات المحايدة أو الأطر الميتافيزيقية والثقافية الأوسع التي تجري ضمنها أنماط العلاقات والممارسات والخطابات التي تتشكل في سياقها تصورات الإنسان عن ذاته وعن عالمه وعن الآخرين تشكيلاً عميقاً، وهذا هو معنى الثقافة بعدها منظومة كلية مركبة من كل ما نفكر فيه أو نقوم بعمله أو نتملكه أو نفضله كأعضاء في المجتمع، فالثقافة السائدة في حضارة ما بوصفها نموذجاً إرشادياً (باراديم) إما أنها تدعم قوى الإنسان العقلية والإبداعية أو تحد منها وتضيق فرص نموها وازدهارها.و” كلمة ثقافة تطلق مجازاً على الجهد المبذول في سبيل تحسين العلوم والفنون وتنمية القدرات الفكرية ومواهب العقل والذكاء” فكيف يمكن تفسير شيوع ظاهرة السحر والخرافة والشعوذة في المجال الطبي العربي اليوم في العديد من البلدان ومنها اليمن والعراق والسودان ؟ إذ اكدت الدراسة الميدانية للحالة الطبية “وجود أكثر من 200 مركز للعلاج بالشعوذة ظهرت في العاصمة صنعاء وحدها خلال السنوات الأخيرة. وأن ما يقارب 300 ألف مواطن ومواطنة في اليمن اضطروا إلى العلاج بالسحر والشعوذة، 70 في المئة منهم من النساء، وهناك حوالى 15 ألف شخص يمارسون أنشطة الدجل والشعوذة في اليمن وأن 56 ألف امرأة يمنية تنفق سنويًا نحو 140 مليون ريال يمني (ما يزيد على 250 ألف دولار أميركي) على الدجل والشعوذة، حسب تقرير سابق لصحيفة الثورة اليمنية. فكيف نفهم شيوع هذه الظاهرة النكوصية في المؤسسة الطبية اليمنية إلى تدهورت إلى اللحظة البدائية في قاع البشرية بالقياس إلى ما حققته الحضارة المعاصرة من ثورة طبية جعلت من حياة الإنسان وصحته وسعادته غاية الغايات ومعيار نجاعة السياسات. إذ لا تعني الصحة كما هو شائع انتفى المرض العضوي أو العقلي فحسب بل تعني الاشباع الكامل لكل حاجات الانسان الأساسية الجسدية والنفسية والعقلية والبيئية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والأخلاقية والجمالية وكل ما يتصل بحياة الانسان ونموه وتمكينه وتنميته تنمية صحية مستدامة بما يحقق له السعادة والرفاه والقدرة على التمتع بالحياة الطيبة إنها تعني “حالة من العافية الكاملة البدنية والنفسية والعقلية والاجتماعية. إنها أبعد بكثير من أن تكون الوقاية من الموت المبكر أو انتفاء المرض أو العجز بل هي حالة ديناميكية كاملة من الرفاه الجسدي والنفسي، الروحي والاجتماعي”. ووفقًا لتعريف منظمة الصحة العالمية، تصف كلمة (صحة) “حالة اكتمال السلامة البدنية والعقلية والاجتماعية للإنسان، وليس مجرد الخلو من المرض أو الوهن” والصحة هي حق أساسي يجب أن تمتع به كل فرد من أفراد المجتمع الإنساني بحالة من العافية البدنية والنفسية والعقلية والبيئية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والأخلاقية والجمالية وغير ذلك من مناحي وشروط حياة الإنسان الاجتماعية الشاملة المستدامة بما يمكنّه من العيش والتمتع بالحياة الطيبة التي تتضمن بالضرورة الاشباع الكامل للحاجات الاساسية بحسب إبراهام ماسلو.
ما يحدث في اليمن هو حالة سريالية مفارقة لكل منطق وتاريخ. فأين يجبر الناس على العودة إلى السحر والشعوذة والخرافة ظنا منهم امكان استعادة عافيتهم فهذا يندرج ضمن التعمية الايديولوجية للحركة الحوثية الطائفية برمتها الكلية إذ هي بالأساس بنت الخرافة والسحر والشعوذة في منطلقاتها وادواتها ومسيرتها وشعاراتها واهدافها المعلنة والمضمرة. والناس على دين ملوكهم! ومن هنا نفهم أن السياسة الطبية تأتي في سياق علاقات القوة بين السلطة والمعرفة. فكل سلطة تنتج المعرفة والادوات التي تبررها وتكرسها وتطيل دوامها والناس دائما هم الضحايا لتلك الحلقة الجهنمية التبادلية بين المعرفة والسلطة وليس بمقدروهم الهرب من اكرهاتها الواقعية. إذ أن أفكار الناس تنبع من واقع علاقاتهم الاجتماعية في عالم الممارسة اليومية والسؤال هو: لا ماذا يفعل الناس؟ ويعتقدون ويقولون؟ بل لماذا يفعلون ما يفعلونه ويقولون ما يقولونه ؟ فالممارسة هي الجزء المختفي من جبل الجليد وشيوع ظاهرة السحر والشعوذة والخرافة في الحالة اليمنية الراهنة هو ملمح من ملامح الوضع الوضع العام الذي ينحدر اليه اليمن الآن ولا شيء خلف الستار.
ختامًا أشدد على أهمية قراءة كتاب ريتشارد ويلكنسون (المجتمعات غير الصحية، علل عدم المساواة) ترجمة محمد منير الاصبحي، مكتبة الملك فهد الوطنية. كتاب مهم جدا لكل من يريد أن يفهم معايير المجتمعات الصحية ومقومات عافيتها الجسدية والعقلية.
إذ أن التفاوت في فرص العيش ومقومات الحياة الاجتماعية والاقتصادية في المجتمعات المحلية يؤدي إلى تآكل الثقة الاجتماعية ويضر بتماسك المجتمع، مما يجعل الجميع في وضع صحي شديد السوء والتدهور في مختلف المجالات الصحية أمراض عضوية ونفسية كثيرة وزيادة عدد الوفيات وانخفاض متوسط اعمار الأفراد وشيوع مشاعر الحسد والقهر والظلم والحرمان والمخدرات والإدمان ..إلخ.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news