قبل أشهر وفي إحدى الزيارات لصديق في منزله وأثناء جلسة المقيل كان التلفاز مفتوحًا على قناة إخبارية وابنة الصديق معنا وهي كما اسميها حبيبة وقلب عمهاـ طفلة بالعاشرة من العمر، وجاء خبر حدوث تلوث في أحد سواحل المحافظات الجنوبية وأعقب الخبر مداخلات مختصيين على التأثير الذي سيحدثه التلوث.
الطفلة لم تستوعب كلام المتخصصين ولكنها وجدت نفسها غارقة في الموضوع وهي لم تتخيل أن الكائنات البحرية المحببة لديها من خلالها مشاهدتها التلفاز أن تصاب بأذى لأنها أحياء لطيفة وجميلة وتبعث على السعادة والراحة، ووسط حيرة وذهول سألت يا عم ما هو التلوث البحري وماذا يفعل بالأحياء البحرية؟ حاولت التحايل بالإجابة عليها لكنها لم تقتنع وظلت تكرر السؤال مترجية إجابتها بصدق.
وبلغة وأسلوب مبسط وبصدق أخبرتها أن التلوث البحري هو تسرب كميات من المواد السامة دون قصد أو رمي مخلفات سامة بقصد في مياه البحر التي يعيش فيها أحياء بحرية ضعيفة وغير قادرة على الهروب من المواد السامة التي تنتشر سريعًا في المياه وتصل إليها لتتسبب لها الموت الجماعي و..
وبصوت مشوب بالبكاء صاحت خلاص خلاص لا تكمل وانهارت بالبكاء، وبعد أن هدأت تساءلت بحزن: كيف الدولة حقنا تترك المجرمين يسممون البحر ويقتلون الأحياء البحرية حق بلادنا، لماذا الدولة لا تطاردهم وتقبض عليهم وتحاكمهم لأنهم مجرمين؟ أيضا لماذا نحن الكبار من اليمنيين لا نخاف على بحارنا والأحياء البحرية مثلما نخاف على أطفالنا؟ وأسئلة كثيرة ملخصها أن الدولة ونحن الكبار قتلة لأننا لا نحمي المخلوقات الضعيفة بالبحر.
حان وقت مغادرة المنزل وصدى أسئلة طفلة صديقي- حبيبة وقلب عمها النقي يتردد في ذهني ويصعقني ودموعها تحرق قلبي.
اليوم تذكرت قصتي مع حبيبة وقلب عمها، وعدت بذاكرتي إلى ما قبل أعوام قرأت تقرير حول الثروة البحرية المهدرة والمنتهكة باليمن، التقرير وهو صادر عن مركز دراسات استراتيجي ورد فيه أن الثروة البحرية اليمنية كانت تمثل نسبة 3 بالمائة من إجمالي الدخل القومي للبلد، والصادرات الرسمية السنوية تصل إلى حوالي 200 ألف طن وعائدات سنوية تتراوح ما بين 350 إلى 450 مليون دولار.
علاوة على أن قطاع الصيد التقليدي باليمن كان يعمل فيه أكثر من 100 ألف صياد مباشر ومثلهم باعة ناهيك عن العاملين في صناعة وصيانة معدات الصيد والنقل، وهو ما يوفر مصدر عيش لحوالي 1.7 مليون نسمة من السكان باليمن، إضافة إلى المستفيدين الذين تصل إليهم الأحياء البحرية وهم بالملايين.
إلا أنه ورغم ذلك ظلت الحكومات المتعاقبة تتعامل مع هذا القطاع بنوع من الدونية وأكثر ما يمكن أن يصدر عنها هو التصريحات عن توجهات لتحقيق استفادة أكبر منه وعقد اتفاقيات مع تجار وأطراف خارجية للاستثمار النوعي بالقطاع هذ، وعلى أن تكون الأولوية هي للصيد التقليدي والتشجيع على التوسع ودعم العاملين فيه ككل، وتمر الأعوام ولا نلمس واقعيا غير مزيد من التدمير والنهب المنظم للثروات البحرية اليمنية.
وجراء هذا التراخي الرسمي وصل الحال إلى تعامل جهات خارجية مع سواحل وبحار اليمن وكأنها مكب نفايات لإفراغ مخلفاتها فيها وزادت حدة هذه العمليات خلال الأعوام الأخيرة، يقابلها صمت رسمي أو في أحسن الأحوال توجيه لتشكيل لجنة للتحقق فيما أثير من حالات تلوث وظهرت للعلن من العامة فيما الجهات المعنية ما زالت تنظر للأمر وكأنه اشاعات وبما يبعث على احتمالات بأن هذه الجهات شريكة فيما يحصل، ولا يهمها سوى أن تستمر في حماية اخطبوطات تدمير السواحل والاحياء البحرية اليمنية تحت يافطات واهية تنال من لقمة ومصدر عيش الصيادين التقليديين الذين لا يمثلون أي خطر بل على العكس تعتبرهم التوجهات الرامية للحفاظ على البيئة البحرية أحد العوامل المهمة للحفاظ على البيئة والاحياء البحرية من التدمير.
ولأن الحكومات المتعاقبة تعيش خارج إطار الفاعلية ولا تضع اعتبارات حتى للتوصيات التي تصدر عنها وأبرزها أن الصيد التقليدي أحد أهم عوامل الحفاظ على البيئة البحرية ويجب تشجيعه، فقد عمدت خلال الأشهر الماضية من العام الجاري 2024 إلى توقيع عدد من الاتفاقيات مع دول ومستثمرين أجانب ومنظمات دولية للاستثمار في الأحياء البحرية اليمنية وبما يحقق لليمن عوائد كبيرة.
ورافق توقيع الاتفاقيات إعادة تأهيل وإنشاء مراكز إنزال سمكي امتدادًا من المخأ وحتى المهرة جزء من الاتفاقيات لتسهيل عمل الأطراف الخارجية وفي المقابل تبني توجه لمحاربة الصيد التقليدي الذي يوفر لما يقارب 1.7 مليون نسمة لقمة عيش ومصدر دخل كريم ويحافظ على البيئة البحرية معافاة.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news