ما الذي يمكن أن يقدمه قارئ.. قضى سحابة يومه ، خارج الكتاب؟.
هل يمكن لفاقد الشيء أن يعطيه؟.
إذا كانت المركبة بلا وقود ، فكيف تعمل؟.
لكن الإبداع طبيعة في الفنان . لو كان طبيباً، ستنفرد به لحظة لا محالة.
رواية “أريد ساقا أقف عليها” مؤلفها طبيب جرّاح.
ورواية “المريضة الصامتة” مؤلفها طبيب نفسي.
روايتان مذهلتان.
من أين حصل كلٌّ منهما على شرارة العبقرية؟
تتفقون معي، إن التخصص المهني، ليس له علاقة بالموهبة.
كان أحد الروائيين العالميين يقول: أنا لا أعزف الأغنية، بل الأغنية تعزفني!.
في علم النفس الإبداعي هناك مقولة تقول:
إن المبدع ذا الذكاء المرتفع، مُعتدٌّ بذاته على قلقٍ وتوتر، الفرق بينه وبين المبدع العادي، أنه يمكنه التغلب عليهما بطريقته الخاصة.
إن الإحساس بالعيش في كنف الإبداع.. بين الارتماء على ضفاف أغنية راقية اللحن، راقية الكلمة، راقية الأداء.. وبين أفياء ديوان شِعرٍ مهلم وعظيم كالمتنبي وشكسبير.. وفي معرضٍ تشكيلي للفنون والأعمال اليدوية.. يُشعرك بالسعادة.
وبعيداً في اقترابٍ من حديثي هذا.. الحروف التي تتكون منها كلمة ” السعادة ” تشد انتباه الحس، وتوقظ خلايا التركيز في الدماغ، فحرف السين والعين والدال من جذر الكلمة “سعد” توحي بالسكينة.. على عكس كلمة” الشَّقاء ” التي توحي بالظلال الكئيبة.
إنها لغة عبقرية ، كل كلمة فيها تقود العقل إلى مدينة الإبداع.
لم تجر الأمور في المدرسة كما كنت مخططا لها.. فحصة فارغة هنا، وزائر للمدرسة من هناك.
اتصال من هنا ، وإرسال خطاب إلى جهة معينة من هناك.
دخول في هذا الصف، وخروج إلى صف آخر .. دوامة كنت فيها كريشة في مهب الريح، لا تدري ما يفعل بها!.
كنت أشعر بأن ماء باردا انحدر إلى قلبي ، كلما رأيت وجه طالب.
أشعر بأني ولدت من جديد.
قالت طالبة: يا أستاذ لماذا أنت حزين؟.
اضطربتُ كسفينة!.
كيف استطاعت أن تصل إلى أعماق نفسي الدفينة؟ بالطبع، ربما لاحظ الكثير ذلك على وجهي! فالوجه مرآة للذات.
لقد كنت مقتولاً من الحزن على حال الطلاب! الوقت يتلاشى كخيط من دخان؟.
يحصل غياب في المدرسة أحيانا كأي مدرسة.. ربّما. قالوا : فيم تفكر؟ أطرقت ساعة، وأنا أقارن بين مثقفي التنوير في القرون الوسطى ، وبين طلابي! لم تنهض أوروبا خلال خمسة قرون من الظلام والتخلف والحروب الأهلية .. لم تنهض أوروبا من فراغ. بل باختراع آلة الطباعة ونشر الكتب والمجلات. كان هناك شغف بالمعرفة. قلت: تلعبون في الفصل الشطرنج، وغيركم في الفصل يعمل في التأليف، أو في المختبر أو في ورشة كتابة قصة أو.. لا عليكم، ربّما، معكم حق، وربما أنا محق أيضاً.
لقد تذكرت نفسي في القرية.. في بداية التسعينيات.. كنت في الصف الثاني الإعدادي.. تذكرت الشجرة التي كنت أدرس مع زملائي تحت أغصانها الظمأى ، وظلالها الممزقة.. تذكرت زملائي، لا أدري إن كان زملائي يسمعونني الآن؟.
أيها الزملاء هل تسمعونني؟.
إلى قريتي الصغيرة في “مخلاف تعز” وراء الجبال.
إلى رفاقي الفقراء الذين كنت أستعير بعض ثيابهم.. وكانوا كذلك!.
إلى كل المجانين الذين كنت معهم في الصف نناضل جوار النافذة هناك في المقاعد الأخيرة.
إلى طابور الإذاعة المدرسية، والورقة التي كانت ترتجف بيدي، وصوتي الذي كانت تردده الجبال، وسلام الجمهورية اليمنية: الله، الوطن، الثورة.
إلى الذين لا يزالون يجلسون قرب الشجرة اليابسة اللصيقة بمسجد القرية منذ عشرين سنة.
إلى تلك الأكواخ و”الدِّيَم” على حافة المزارع المرتفعة.. التي تنفح منها رائحةُ “دَبّة السُّمّ”.
إلى ذلك “الطِّربال” الأزرق الذي كان يقينا أحياناً من المطر، ورفيقنا الفنان أيوب طارش، ونحن نمضغ أوراق الكلام، ونمضغ في بطارية المُسجِّل أيضاً!!
أجدِّد العهد بحبكم.. والولاء.
قلمي عارٍ مثلكم، تلفحه الشمس، ويملأ فمَه الغبار! لا يزال يكتب للفقراء.. لازلتُ أحلم وأردد ما كنا نقوله: العيد عيد العافية.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news