مثّل القصف الإسرائيلي على ميناء الحديدة ومحطة كهرباء رأس كثيب وخزانات الوقود هناك منعطفًا في مسار الأحداث الملتهبة في المنطقة، وبات احتمال توسع الحرب واردًا بنسبة أكبر مما كانت عليه قبله؛ لأن التصعيد قبل ذلك ظل مقصورًا في ضربات محدودة التأثير لفصائل المقاومة، بما فيها حركة �أنصار اللهّ� اليمنية، التي كانت تستهدف السفن المرتبطة بإسرائيل أو المتجهة إليها مع السفن الأمريكية والبريطانية، وتشنّ هجمات بطائرات مسيّرة وصواريخ على مناطق في جنوب فلسطين المحتلة، وصولًا إلى استهداف مدينة تل أبيب بطائرة مسيّرة؛ لترد إسرائيل بشن هجوم بعددٍ من مقاتلات إف 15 مستهدفة منشآت مدنية في ميناء الحديدة غربي اليمن، نجم عنه سقوط شهداء وجرحى.
الحوثيون توعدوا بردٍ قاسٍ خارج قواعد الاشتباك، وهذا الرد وارد ومتوقع في أي لحظة؛ لكنه سيمثل تصعيدًا خطيرًا في المنطقة؛ خاصة إذا جاء الرد الحوثي مفاجئًا في فحواه وتأثيره، أكثر مما كان عليه من خلال مسيرة �يافا� التي ضربت في تل أبيب؛ أي في حال كان الرد، هذه المرة، من خلال سلاح لم يسبق الإعلان عنه، ويُحدِث تأثيرًا غير متوقع تهتر معه الأسطورة الإسرائيلية للمرة الثالثة، وهنا نسأل: ما احتمالات اندلاع حرب إقليمية في المنطقة؟
عضو المكتب السياسي لـ�أنصار الله� (الحوثيون) مُحمّد البخيتي، قال في مداخلة تلفزيونية إنه �سيكون هناك رد يجعل العدو الإسرائيلي يندم على العدوان على الحُديدة�.
زعيم الجماعة، عبدالملك الحوثي، قال في خطاب الخميس الماضي، إن الرد آت لا محالة، وسيتم استهداف مدينة تل أبيب بالمزيد من العمليات، مؤكدًا أنه لم يعد هناك أماكن آمنة لليهود الصهاينة في فلسطين المحتلة. في إشارة إلى أن الرد لن يقتصر على تل أبيب، وهي عنوان إسرائيل العريض، بل سيشمل كل فلسطين المحتلة. هذه الثقة في الحديث عن رد لا تأتي من فراغ؛ فمن المؤكد أن الحوثيين يخبأون الكثير من المفاجآت في حربهم؛ وخاصة إذا كانت ضد إسرائيل.
في حال تتبعنا مفاجآتهم على صعيد قدراتهم التسلحية منذ بدء عملياتهم البحرية في مساندة غزة، سنجد أنه تم الإعلان عن عددٍ من الأسلحة، التي فاجأت المتابع، ولم تقتصر تلك المفاجآت على الزوارق المسيّرة ذات القدرة التفجيرية الهائلة، والتي تستطيع أن تقطع أكثر من مئة ميل بحري وتنال من هدفها، كما تسببت في إغراق سفينة �توتور� اليونانية، بل يمتد إلى الصواريخ البحرية فرط صوتية، والتي وصل مداها إلى البحر العربي والمحيط الهندي، وهناك سفن تم استهدافها من خلال هذه التقنية من الصواريخ في أبعد مناطق للحكومة المعترف بها دوليًا، علاوة على التطوير المستمر للطائرات المسيّرة بدءاً من مسيرة صماد وانتهاء بمسيرة يافا، والأخيرة وصلت إلى تل أبيب، مخترقة حواجز الرادارات الأمريكية في البحر والإسرائيلية داخل نطاق دولة الاحتلال. فيما يتعلق بالصواريخ سبق الإعلان عن أنواع منها؛ وسبق استخدامها ضد أهداف في العمقين السعودي والإماراتي، ما يعني أن احتمالات استخدام أسلحة جديدة على صعيدي الصواريخ والمسيّرات ورادة.
وقد يتسبب استخدامها في الرد على العدوان الإسرائيلي على الحديدة في رد فعل إسرائيلي كبير، خاصة إذا نجحت في تجاوز شبكة الدفاع الجوي الإسرائيلية، التي تبدو حاليًا في حالة استنفار قصوى، وأحدثت خسائر كبيرة؛ وحتى لو لم تُحدث خسائر؛ فإن الضرب في العمق الإسرائيلي الحساس للمرة الثانية خلال حرب غزة، سيمثل حدثًا فارقًا في الصراع العربي الإسرائيلي، ومن المؤكد أن يترتب عليه هجوم إسرائيلي واسع على اليمن، في أكثر من مكان، ولن يكون المدنيون خارج بنك أهداف المقاتلات الإسرائيلية، التي اعتادت خرق القانون الدولي، وارتكاب مجازر الإبادة الجماعية والتدمير الأعمى؛ وهو تكتيك قتالي إسرائيلي بات معروفًا.
ولا يستبعد أن تتحرك واشنطن وتستبق إسرائيل أو تقنع إسرائيل بعدم الرد كونها سترد نيابة عنها من خلال تحالف دولي، إذ ستشكل واشنطن تحالفًا دوليًا، وتستصدر قرارًا من مجلس الأمن بالهجوم على الحوثيين، وربما لن تلجأ لمجلس الأمن في ظل الموقف الروسي الذي لن يتوانى في استخدام �الفيتو�. وقد يضم التحالف دولًا عربية، بما فيها دول من الجوار اليمني، لكن: هل ستنجح واشنطن وتحالفها في أداء المهمة؟ هل ستكون اليمن أفغانستان أخرى؟ وماذا سيكون دور قوى المقاومة في لبنان والعراق وسوريا؟
ثمة ترجيح أن تشكل واشنطن تحالفًا دوليًا يضم دولًا عربية من الجوار الإقليمي لليمن، حرصًا منها على ضمان عدم تمدد رقعة الحرب، في حال تكفلت إسرائيل بالهجوم؛ لأن رد الحوثيين سيجعل من الفعل ورد الفعل هو التحصيل الحاصل لواقع قد تتمدد فيه الحرب، مع تدخل قوى المقاومة بشكل أكبر مما كانت عليه؛ وهنا لا نستبعد تدخل قوى المقاومة في حال اعتمدت واشنطن تكتيك التحالف الدولي أو تكفلت إسرائيل برد الفعل.
ومن الوارد أن تشكل واشنطن تحالفًا، وقد تلجأ لمجلس الأمن، وهي تعرف أن روسيا لن تمنحها حق الفوز بقرار أممي مؤيد لتحركها العسكري؛ لكنها ستتجاوز مجلس الأمن، وتتحرك من تلقاء نفسها من خلال التحالف؛ وتشن هجومًا على اليمن، وهنا سيكون الباب مفتوحًا على حرب طويلة، لن تكون دول الجوار بمنأى منها، فالحوثيون استعدوا جيدًا لحرب طويلة تقودها واشنطن، وشكلوا وحدات عسكرية لهذه المعركة، منذ بدء هجماتهم البحرية، ولم يكشفوا، حتى الآن، عن ترسانتهم التسلحية، وبالتالي فإن هذه الحرب لن تكون خاطفة كما تريدها واشنطن؛ أو كالتي استعد لها التحالف العربي عام 2015 واضطر بعد ثمان سنوات أن يغادرها قبل أن ينهيها لصالحه؛ لأنه وجد كلفتها باهظة، وأبوابها مفتوحة على احتمالات عديدة.
ستكون الحرب التي يمكن أن تخوضها واشنطن، والتي بلغت كلفة عملياتها الحالية على اليمن أكثر من مليار دولار وفق وسائل إعلام أمريكية، طويلة، وستكون فيها إسرائيل جزءًا من مسرح العمليات لهذه الحرب؛ الأمر الذي يجعل المنطقة في حال تحقق هذا السيناريو ساحة حرب شاملة لا نعرف متى وأين ستتوقف؟
حتى لو خاضت إسرائيل حربًا على اليمن بنفسها؛ فإنها لن تكون أمام حرب (الفعل ورد الفعل المحدود) بل ستكون أمام حرب لا حدود لها، ولن تكون لصالحها بفعل بُعد المسافة التي تفصلها عن اليمن، ولأنها ستكون في مواجهة كافة قوى المقاومة التي تمتلك جرأة في التحرك خارج حدود التوقع السياسي، وهنا سنكون على موعد مع حرب ربما تُعيد تشكيل المنطقة ككل، لو استجاب لها جنون إسرائيل واعتدادها الزائد بقدرتها العسكرية وعدم احترامها لأي قواعد اشتباك، كما فعلت في عدوانها على الحُديدة، وقبل ذلك عدوانها المستمر على غزة منذ أكثر من عشرة أشهر.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news