سؤال استعادة الدولة لم يعد حول القوة أو السلطة بل عن الصدق مع الذات والرغبة في الخروج من سجن التناقضات
هذه المقالة ليست إجابة جاهزة عن سؤال الدولة بل محاولة لاستدعاء هذا السؤال في لحظته الأكثر ارتباكاً، فلا الفكرة واضحة ولا الممثل صادق ولا الطريق معبد.
لا تعود الأسئلة الكبرى في لحظات الانقسام العميق سياسية وحسب بل تتحول في اعتقادي إلى شظايا وجودية تلامس جوهر المعنى: ما الدولة؟ من يمثل من؟ ومن يدافع عن من؟ وأين تقف الحقيقة بين الخطاب والفعل؟
في اليمن حيث تترنح الفكرة الوطنية بين محاولات استعادتها وسرديات تشظيها، يصبح التفويض السياسي كأداة أو ادعاء أكثر من مجرد مفردة في القاموس الدستوري، إنه قناع يتخفى خلفه العجز ومجسم لأزمة التمثيل حين تنفصل السلطة عن الواقع وتستبدل الشرعية بالاستحواذ والرغبة بالادعاء، والمشكلة في تصوري ليست في رفع الشعارات بل في اتساع الهوة بينها وبين الأرض، وما من خطر أعظم من تمثيل بلا مساءلة أو من تفويض يبنى على وهم ويدار من فوق ركام، فحين يغدو "الحق في التمثيل" ذريعة لتكريس الانقسام وتتحول "الشرعية" إلى أداة لإدامة مأزق الحكم، فإننا لا نكون إزاء مشروع دولة بل أمام إعادة تدوير لفشل قديم بلغة جديدة، وهذه المقالة ليست إجابة جاهزة عن سؤال الدولة، بل محاولة لاستدعاء هذا السؤال في لحظته الأكثر ارتباكاً، حين لا تكون الفكرة واضحة ولا الممثل صادق ولا الطريق معبد، وهي قراءة في مفارقات اللحظة وهشاشة المفاهيم حين تختزل في خطاب وظيفي، وفي محنة اليمنيين بين من يتحدث باسمهم وبين ما يعيشونه من وجع لا يجد ترجمة في الفعل ولا عزاء في الوهم.
انظروا وتأملوا فلم يعد أحد يرفع صوته بتعبير "تفويض الشعب الجنوبي للمجلس الانتقالي الجنوبي" أو "الممثل الشرعي لشعب الجنوب" كما كان يحدث خلال أعوام ماضية، لا لأن التفويض الجماهيري باسم آلاف من الناس في ساحة العروض بـ "خور مكسر" في عدن لا يشمل كل الناس في جنوب اليمن، ولا لأن المشروع الذي يفترض أن يفعل من خلاله قد نضج واكتمل، بل لأن الواقع الصادم بات يُكذب ما يقال ويُفصح بوضوح عن أزمة عميقة تتجاوز القدرة على الترويج والشعارات، فالمشهد في جنوب اليمن، ولا سيما في عدن، حيث الجمود السياسي بات قريناً بانهيار الخدمات، وازدياد عدد الفقراء على نحو لافت ومخيف، وتآكل مفهوم الدولة، فلا مجلس النواب قادر على الانعقاد ولا مجلس الشورى، فيما بدت هيئة التشاور والمصالحة اسماً باهتاً بلا فعل أو تأثير يذكر.
وكما أن الجماهير التي فوضت بالأمس باتت اليوم مع كل الناس في عدن وغيرها من المحافظات المحررة غارقة في ظلام بسبب غياب الكهرباء وعجز الرواتب التي صارت بلا قيمة، وسؤال الأمن الباحث عن إجابة شافية، فإن اللغة التي اعتادت الخطاب الثوري لم تعد تقوى على التفسير أو التبرير، ومع ذلك لا يزال بعضهم يكرر سرديات القوة والتمكين والتمثيل السياسي بحجة تفويض لا قيمة له قانونياً، في خطاب إقصائي وغير واقعي يهرب إلى الأمام من دون أن يلتفت إلى الأرض التي تغرق تحته، ولا إلى الشروخ التي تزداد اتساعاً بين المقول والمفعول.
في جوهر التناقض تتبدى المفارقة السياسية والفلسفية معاً، فكيف لخطاب يدعي تمثيلاً إرادوياً مطلقاً أن يغض الطرف عن الواقع المأزوم، بل ويبتكر ما يشبه "ميتافيزيقا التفويض" ليحتمي بها من المساءلة؟ إننا بإزاء سردية تعيد إنتاج منطق "الوحدة أو الموت" في صورة معكوسة لكنها لا تقل عنه تعسفاً أو اغتراباً عن الحقيقة، وقد سبق أن أشرت في مقالة كتبتها في الـ 10 من فبراير (شباط) 2023 إلى أن "فزاعة الانفصال" غدت أداة بيد من طالما اتكأوا على شعارات الوحدة لإقصاء الجنوب وسحقه، ثم عادوا بعد سقوط زعيمهم في ديسمبر (كانون الأول) 2017 ليرتدوا عباءة الجنوب وكأنهم "الأكثر وفاء" لقضيته وهم في الأصل امتداد لقمعه.
واليوم لا يبدو المجلس الانتقالي، الذي يقولون إنه مفوض باسم الشعب كله في جنوب اليمن، قادراً على تقديم شيء يتصل بإدارة مؤسسات دولة كما يجب أن تدار، فيما يراوح شركاؤه في مجلس القيادة الرئاسي في عدن العاصمة الموقتة للجمهورية اليمنية بين "تمثيل وظيفي" لا يتجاوز المناصب، وتحت ظلال أعلام الجمهورية التي كانت سائدة في جنوب اليمن، وليس تحت ظلال أعلام الجمهورية اليمنية، وبين تعبير انفعالي أو حالم لا ينتج قراراً حاسماً في ظل غياب مشروع جامع أو حتى نقطة التقاء تبقي للوطن معنى.
أعتقد أن التناقض القائم بين الخطاب والممارسة ليس شأناً يخص المجلس الانتقالي وحده، بل هو مرآة لاهتزاز أعمق يطاول صدقية مجلس القيادة الرئاسي بأكمله، وكنت أشرت في مقالة كتبتها في التاسع من أبريل (نيسان) 2025 إلى أن استعادة الدولة لا تكون بتوفير الغطاء الشكلي للشرعية، بل بقدرة المجلس على تفعيل نص إعلان نقل السلطة ومخرجات مؤتمر مشاورات الرياض كمسار عملي واضح، يُبنى على خطوات واقعية تبدأ باستعادة السيطرة وتنتهي بإعادة تعريف الدولة بموجب توافق وطني شامل.
غير أن ما يجري على الأرض، على رغم الجهود غير العادية التي يبذلها رئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي، لا يشير إلى تقدم حقيقي باتجاه استعادة الدولة، بل يشي بانحراف عن المسار نحو مزيد من التشظي، فالعناوين الكبرى مثل المصالحة الوطنية والسيادة والوحدة الوطنية والحكم الذاتي وتقرير المصير وفك الارتباط والدور الإقليمي والدولي والإعمار ومكافحة الجماعات المسلحة، لا يمكن مواجهتها بمنطق التمثيل الظني أو التفويض الذي يفتقر إلى شرعية الإنجاز، بل بتأسيس إرادة سياسية صلبة تعلي من شأن الوطن على حساب الولاءات، وتعيد للدولة موقعها كفكرة جامعة لا كغنيمة تتقاسمها الكيانات.
وما يحدث اليوم في تصوري هو أن كل طرف في هذا المشهد الشائك شديد التعقيد، سواء المجلس الانتقالي الجنوبي أو المكونات الأخرى داخل مجلس القيادة الرئاسي وخارجه، يحاول أن يعيد تعريف مفهوم الدولة على مقاس مصالحه لا وفق عقد وطني جامع، وهو ما يؤجل إمكان استعادة الدولة فعلياً ويكرس واقعاً سياسياً متصدعاً بلا مركز ولا مشروع، والمؤلم في ذلك أن هذا التصدع يحدث باسم "القضية الجنوبية" تارة وباسم "الجمهورية اليمنية" تارة أخرى، وكأن الخلاص أصبح مرتهناً لإعادة تدوير الشعارات السابقة في قوالب جديدة لا تخفي عجزها البنيوي عن الفعل.
وفي هذا السياق شديد التعقيد هل يمكن اعتبار التظاهرات التي اندلعت في حضرموت خلال الأيام الماضية احتجاجاً على الأوضاع المتردية، وتمزيق صور رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي عيدروس الزبيدي من بعض المحتجين الغاضبين، وتلاها بأيام استعراض عسكري مهيب لتخرج الدفعة الأولى من دورة الاستجداد من منتسبي اللواء الأول بقوات حماية حضرموت بحضور القائد الأعلى لها عمرو بن حبريش، دالة أكيدة على صعوبة ما هو قادم؟
إن ما كان يروج له كحال إجماع لم يعد كذلك، وما يقال إنه "تمثيل مفوض" بات اليوم في عين العاصفة، فالغضب الشعبي الذي بدأ يتشكل خارج المركز، في حضرموت على سبيل المثال، ليس مجرد فعل احتجاجي عادي أو عابر، بل مؤشر على تآكل الصورة الرمزية لكيانات تدعي التمثيل في لحظة تبدو فيها كل المشاريع عاجزة عن تقديم إجابة شافية عن السؤال الجوهري: من يمثل من؟
في نهاية المطاف نحن أمام مشهد تتلاشى فيه الحدود بين الفكرة وتضادها، بين الوحدة والتفكك، بين التمثيل والانفصال، وبين التفويض والغرق، وسؤال استعادة الدولة لم يعد سؤالاً عن القوة أو السلطة بل عن الصدق مع الذات والرغبة في الخروج من سجن التناقضات، أما من يصر على عبور الجسر ذاته وهو يرى انهياره من تحته فليس حراً ولا مفوضاً، بل محض تكرار لعطب قديم يرتدي قناعاً جديداً.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news
قال وزير النقل الأسبق الدكتور بدر باسلمة إن جهوداً دولية وإقليمية مكثفة تقودها الولايات المتحدة الأم
شهدت أسواق الصرف في اليمن، اليوم الخميس 7 أغسطس 2025، تحركاً لافتاً ومفاجئاً في أسعار العملات الأجنب
على الرغم من الفرحة الكبيرة التي يعيشها الشعب اليمني بسبب تحسن سعر العملة اليمنية وانخفاض أسعار العم
نحو عهد اقتصادي جديد.. الكشف عن جهود حثيثة للبنك المركزي لاستقرار قيمة الريال اليمني عند هذا المستوى
نحو عهد اقتصادي جديد.. الكشف عن جهود حثيثة للبنك المركزي لاستقرار قيمة الريال اليمني عند هذا المستوى
في خطوة تعكس بداية مرحلة اقتصادية جديدة بمحافظة حضرموت، أقر مجلس الوزراء، الأربعاء، مشروعًا استراتيج
قال الصحفي المتخصص في الشأن الاقتصادي، ماجد الداعري، إن أحلام المواطنين في العاصمة عدن سرعان ما تبخر