تفاصيل الخبر | اهم الاخبار
رملة_كنتُ_جنين_ركامها
97 قراءة  |

عبدالله النهيدي

التأريخ للمكانِ جزء من كينونةِ الكاتب؛ فهو يوثّقُ كل لحظات عمره بمراتعِ الصبا والشباب وبقايا العمر. فرغتُ من قراءة السِّفْر الأخير من يراعاتِ الأديب خالد بريه⁩ بعنوان رملة. تجلّيات المكان فيها، وكأنه رأي عين، أضافت لي الكثير. كنتُ كلما لقيت سوريًّا دمشقيًّا، أتكلم معه عن دمشق كمن يعرفها، أتحدث عن الزبداني والفيجة والمهاجرين، عن الجامع الأموي والمرجة و… و… فيسألني: “هل زرت دمشق؟” فأقول: “نعم، وتجولت في كل أحيائها، لكن بالخيال.” فيستغرب، فأجيبه: “قرأتُ مذكرات الأديب علي الطنطاوي”.

كذلك، تجولتُ في أحياءِ ومساجد ومكتبات الحديدة التي أعرفها وكأنني لا أعرفها. رغم كثرة زياراتي لهذه المدينة، ووجود قسم من عائلتي فيها، إلا أنَّ رملة جعلها في عيني بكرًا وكأني اكتشفها اليوم؛ مطاعمها ومأكولاتها، أحاديث وأسمار أهلها، حكاية التهامي البسيط، معيشة الرجل الساحلي، وأكلات المدينة، كلها تذوقتها من خلالِ رملة. بل كلما مرّ عليّ ذكر شخصية من شخصيات المدينة، أهرع إلىٰ “يوتيوب” لأتعرفَ عليها عن كَثَب، من قرَّاءِ المدينة وخطبائها إلىٰ فنانيها. وجدتُ بين ثنايا الكتاب وفاءً فطريًّا للمكان، حبًّا لا يُمحى، واكتشفتُ أنَّ كتابة الإنسان عن موطنه، إضافةً إلى كونها جزءًا من الوفاء، هي أيضًا وسيلة لتفريغ شحنات الشوق ولهيب الفراق.

وأنا أقرأ عن المدينة بكل تفاصيلها، كنتُ أقول في نفسي: “هذه مدينة، مادة الكتابة فيها غزيرة، هناك كم بشري هائل، هناك تنوع في كل شيء؛ أسواق وجوامع ومكتبات ومدارس.” فما عساني أكتب عن ريدان، قريتي التي نشأت فيها؟ مسجد واحد، وعدد السيارات في بداياتها لا يتجاوز العشر. نجلس أحيانًا لنحصي عدد أهل القرية، نعرف كل شيء فيها بالتفصيل وبدون استثناء؛ نعد بيوتها وأبوابها، ونعد حتى لمباتها. كان لدى والدي دفتر حساب مشروع الماء يحتوي على عدد أهل القرية بالتفصيل، ولدى مشغل مشروع الكهرباء سجلٌ بعدد لمبات القرية كلها. فما عساني أكتب؟

لكن صاحب رملة كتب فصلًا خالدًا عن الريفي في المدينة، وتجلى لي من خلاله أن للقرية حكاية أخرى؛ كل فرد فيها حكاية، كل زواج أو وفاة قصة، بل حتى أحداثها العادية كانت تُصاغ منها مادة سمر لأيام حتى حيواناتها، لكل حيوان حكاية تستحق أن يلتفت إليها….

رملة تجليات موجوع في الغربة على بلد موجوع لم تبقَ منه سوى الذكرى، رملة فصول من الوفاء لشربة ماء، وكسرة خبز، ولكل كوب من الشاي، ولكل إضافة معرفية، ولكل روح نشأت وتكاملت هناك حتى صارت يومًا عَلَمًا يُشار إليه: “هذا العَلَم من مكان كذا”. عندما أتكلم مع غريب ويسألني من أين أنا، فأقول له: “من منطقة، أو قرية، أو محافظة، أو من اليمن كله”، كأنني أسدد جزءًا من الدَّين عليّ لبلدي، لمرتع صباي، لمهوى فؤادي، كأنني أقول لهم: “أنا ابن تلك الديار التي جعلتني أنا… وكفى”.

بقدر الشوق والمتعة التي قضيتها في قراءة رملة على مدار أربع جلسات في أربعة أيام، إلا أنَّ الأوراق الأخيرة نكأت جرحًا عميقًا في نفسي؛ جرحًا يستمطر دموع الصخر لو كان لها دموع. قصص من حكايات تصلح أن تكون رواية مكتملة تضاهي البؤساء، بل هي البؤس كله.

أطبقتُ الكتاب وقد أخذت مني أوراقه الأخيرة نقدًا، ما أعطتني فصوله الأولى نسيئة، وهنا تتجلى براعة الكاتب، عندما يحيك من حروفه شواهد حالٍ تارة تقيمك وتارة تقعدك. إنَّ التفاعل مع النص ليس وليد القارئ، بل هو صناعة الكاتب وحسب. وإلى رملة… وإلى مولودٍ جديد بإذن الله من أبكار قلم خالد.

مدينة جدة ٢٢ ربيع الآخرة ١٤٤٦ للهجرة

تعليقات الفيس بوك

Google Newsstand تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news


تابعنا على يوتيوب

تابعنا على تويتر

تابعنا على تيليجرام

تابعنا على فيسبوك
نافذة اليمن | 989 قراءة 

كشف السياسي اليمني البارز محمود الطاهر، اليوم الثلاثاء، عن عملية ضبط حساسة أوقعت بمسئول يمني كبير كا


الميثاق نيوز | 831 قراءة 

مواصلة العمل مع الحكومة والسلطات المحلية لتحسين كفاءة الخدمات المقدمة للمواطنين ومكافحة الفساد وتعظي


جهينة يمن | 752 قراءة 

عاجل : مسؤول يكشف عن مصرع أبو علي الحاكم وقيادات الصف الأول في صنعاء" أسماء"


يني يمن | 733 قراءة 

رسميًا.. حماس تعلن نجاة قيادتها من غارات إسرائيلية استهدفتهم في الدوحة وتكشف عدد الشهداء


يمن فويس | 717 قراءة 

عودة الرئيس العليمي إلى عدن تحمل بشارات سارة للشعب اليمني.. تعرف عليها


جهينة يمن | 679 قراءة 

العقل المدبر لـ"اجتماع الموت".. نجا بأعجوبة من الضربة على صنعاء


جهينة يمن | 551 قراءة 

عاجل:هذا مايحدث الان في صنعاء


نافذة اليمن | 531 قراءة 

سقط أحد أبرز الشخصيات المحيطة برئيس مجلس القيادة الرئاسي، الدكتور رشاد العليمي، إذ ألقت الاستخبارات


الحدث اليوم | 416 قراءة 

شهداء في قلب الدوحة: قصف إسرائيلي ينهي حياة 5 من أقارب خليل الحية بينهم نجله (الأسماء)


الحدث اليوم | 399 قراءة 

صنعاء تنتقم للدوحة بهجوم صاروخي على "إسرائيل "