د. أحمد عبد اللاه
التاريخ السياسي لا يسير في خطوط مستقيمة، والعلاقات لا تُدار بمنطق التطابق الكامل أو التبعية المطلقة، بل بحسابات المصالح وحدود الأمن المشترك.
غير أن هذا المنطق، مهما ضاق أو اتسع، لا يبرر اطلاق مسار قد يُنتج جرحاً عميقاً ومستداماً في الذاكرة الجنوبية. فالحرب التي يتم تأليف أهدافها في إعلام المملكة لا تكشف عن موقف يستهدف وحدة أراضي الجنوب وحسب بل كثيراً ما تفضح ارتباك القرار.
أما بيانات التبرير، تحت عناوين حماية المدنيين أو خفض التصعيد، حين تُسقِط من حسابها طبيعة الفاعل على الأرض، وتتعامل مع القوات الجنوبية كأنها جسم طارئ أو "غزو خارجي"، فإنها لا تُبرّر الفعل بقدر ما تُعرّيه أخلاقياً وسياسياً.
من هنا، فإن قصف ميناء المكلا لا يمكن قراءته كحدث عسكري معزول، بل إنطلاقة ثقيلة الدلالة. وكان المنتظر، من منطق الدولة الكبيرة، ألا يُدار التباين حول الوجود العسكري الجنوبي في وادي وصحراء حضرموت من خلال كسر الإرادات بل عبر مقاربة تعترف بالقلق الجنوبي بوصفه قلقاً مشروعاً، نابعاً من تجربة تاريخية مُكلفة، وليس من لحظة سياسية عابرة.
إن إنكار الاختلالات الأمنية، وعلى رأسها تمدد القاعدة تحت غطاء "المنطقة العسكرية الأولى"، لا يناقض فقط منطق الأمن الاستراتيجي، بل يؤكد مشروعية تحرك القوات الجنوبية. فإدارة الجغرافيا الحساسة بالاتكاء على واقع أمني هش، وأدوات قبلية ظرفية أو مجالس بلا أرضية حقيقية، ليست سوى إعادة إنتاج لسجل طويل من الإخفاقات في سياسة المملكة.
إن الخطاب الاعلامي السعودي حاول القفز فوق هذه الحقائق، بل وتجاوز أحياناً حتى سرديات إعلام تنظيم الإخوان في مستوى التضليل. ومع أن هذا الإعلام لا يشكّل معياراً أحادياً لسياسات الدولة، إلا أن خطورته تكمن في إنتاج غطاء نفسي وأخلاقي لقرارات خاطئة، وتحويلها إلى فعل يتسبب بخسارة احد أهم الحلفاء على الارض.
من زاوية استراتيجية أوسع، يصعب تصور أن تتجه المملكة إلى تفكيك واقع سياسي وأمني ساهمت بنفسها في بنائه منذ انطلاق عاصفة الحزم. فمثل هذا المسار لا يضر بالجنوب وحده، بل يُقوّض ما تبقى من مشروعية التحالف الذي تفكك فعلياً، ويعيق أي مسارات قادمة في مواجهة الحوثي حرباً أو سلماً كما أنه يكتب عملياً نهاية كيان "شرعية الخارج” التي لم تعد، موضوعياً، إطاراً جامعاً أو قادراً على تمثيل كافة الأطراف.
وفي السياق، ثمة قوى اعتادت البقاء في المناطق الرمادية، وتعيش على بيئات الصراع، وتقتات على تأجيج الفتن. هذه القوى، في كل مرحلة، تحاول التسلل عبر سياسات المملكة ذاتها، متخفية بأسماء "الشرعية" و"الدولة" و"الجيش الوطني"، وسائر المسميات الجاهزة، لتعيد تموضعها وتمكين أتباعها وإعادة تدوير نفوذها السياسي.
الجنوبيون لا يغادرون أرضهم ولا يشكلون عامل تهديد لأي دولة في الجوار فهم ثابتون حيث ينبغي أن يكونوا بوصفهم أهل البلد وأصحاب الحق، وليسوا كتلة قابلة للانزياح تحت يافطات التقية أو حيل البقاء.
ومن هنا فإن المضي في منطق التصعيد لا يفتح أفقاً للحسم ولا يعيد ترتيب المعادلة بل يهدد بنهايات مؤلمة لعاصفة الحزم التي لم تُحكم حزمها، سوى أنها تحولت من مشروع استعادة دولة مختطفة إلى استعداء الحلفاء ذاتهم. وتلك مأساة سياسية تاريخيّة تتحمل قائدة التحالف تبعاتها، وقد تترك آثارا عميقة يصعب تجاوزها أو ترميمها في المستقبل.
أحمـــــــــــدع
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news