حين نشر وزير الدفاع السعودي ومسؤول الملف اليمني بالمملكة، الأمير خالد بن سلمان، رسالته الموجّهة "إلى أهلنا في اليمن"، لم تكن الكلمات مجرّد تعليق على تطورات ميدانية طارئة، ولا بياناً سياسياً تقليدياً يُضاف إلى سجل المواقف المعلنة، بل بدت أقرب إلى مراجعة هادئة لمسار طويل من الشراكة، وإعادة ضبط للسياق الذي انطلقت منه، وحدود ما يمكن أن تستمر عليه، رسالة اختارت لغة التذكير لا التصعيد، لكنها حملت في طيّاتها دلالات أعمق من توقيتها ونبرتها.
في ظاهر الرسالة، أعاد الأمير سرد الدور الذي لعبته المملكة منذ انطلاق عمليتي "عاصفة الحزم" و"إعادة الأمل"، مؤكداً أن تحرير عدن والمحافظات الجنوبية كان محطة محورية في مسار استعادة الدولة اليمنية، وأن التضحيات التي قُدِّمت لم تكن من أجل إعادة إنتاج صراعات داخلية، ولا لفتح مسارات نزاع جديدة داخل المعسكر الواحد، مشدداً على أن تعامل الرياض مع القضية الجنوبية جاء بوصفها قضية سياسية عادلة، لا يجوز اختزالها أو توظيفها بالقوة، وأن اتفاق الرياض، ونقل السلطة، ومشاركة الجنوبيين في مؤسسات الدولة، كانت خطوات مقصودة لترسيخ الشراكة ومنع الإقصاء.
غير أن الرسالة، في قراءتها الأوسع، لا تبدو مجرد استعادة لتفاصيل الماضي بقدر ما تعكس لحظة تقييم لما آل إليه المسار، فالإشارة إلى التطورات التي شهدتها حضرموت والمهرة منذ مطلع ديسمبر الحالي، وما ترتب عليها من توتر وانقسام داخل المعسكر الواحد، جاءت بوصفها مثالاً حياً على الفجوة الآخذة في الاتساع بين الهدف الذي انطلقت من أجله الشراكة، والواقع الذي أفرزته ممارسات فرض الأمر الواقع ميدانياً.
ومن خلال هذا الربط، بدا أن الرياض لا تجادل في عدالة القضية الجنوبية، بقدر ما تقيّم المسار الذي سلكته، والنتائج التي انتهى إليها على الأرض، حين تحولت الخلافات السياسية إلى وقائع ميدانية أثّرت على وحدة الصف وأضعفت الجبهة المناهضة لميليشيا الحوثي المدعومة من إيران.
في هذا السياق، يصبح توقيت الرسالة جزءاً من مضمونها، ويطرح سؤالاً يتجاوز الحدث المباشر: لماذا اختارت الرياض هذه اللحظة لتقول ما كانت تؤجله؟
عبئ عدن ما بعد التحرير
للإجابة، لا بد من العودة إلى ما بعد تحرير عدن عام 2015، في تلك اللحظة التي كان يُفترض أن تتحول فيها المقاومة إلى إطار وطني جامع، بدأت ملامح مسار مختلف تتشكل، فبدلاً من إدارة التعدد داخل الجنوب عبر شراكة سياسية، برز اتجاه نحو الاستفراد بالقرار بدعم إقليمي، ترافق مع استخدام السلاح لإقصاء قادة كان لهم الدور الأبرز في مواجهة ميليشيا الحوثي لكنهم رفضوا مشروع الانفصال أو عارضوا اختزال الجنوب في جماعة واحدة، وأبرز هؤلاء محافظ عدن الأسبق وقائد تحريرها جعفر محمد سعد. اغتيالات، استهدافات، حملات تخوين، وسجون خارج إطار الدولة، تحوّلت تدريجياً إلى نمط ثابت ومزية من مزايا المدينة.
وفي تقرير سابق، رصد "بران برس" 156 عملية اغتيال شهدتها مدينة عدن المعلنة عاصمة مؤقتة، قُيد معظمها ضد مجهول، في ملف ما يزال جرحاً نازفاً وملفاً مفتوحاً يثير العديد من التساؤلات عن الفاعلين والجهات الداعمة لهذه العمليات التي طالت شخصيات بارزة، شملت علماء، وأئمة مساجد، وقادة في الجيش والأمن، إضافة إلى العشرات من قادة المقاومة الشعبية التي كان لها دور محوري في تحرير المدينة.
كان المستفيد الوحيد من كل ذلك هم دعاة الانفصال الذين تضخمت قوتهم بدعم خارجي، وأسسوا جيشاً خاصاً بهم في تلك الفترة بعيدا عن وزارة الدفاع، وقوات أمن بعيداً عن وزارة الداخلية، قبل أن يبلغ الأمر الذروة بإعلان المجلس الانتقالي الجنوبي في مايو 2017، إثر إقالة الرئيس عبدربه منصور هادي، عدداً من المسؤولين الذين كانوا يعملون لصالح مشروع الانفصال من خلال مناصبهم التي يتولونها داخل الحكومة الشرعية.
كانت تلك التحركات تشكل عبئاً على التحالف العربي الذي تقوده السعودية لتحرير اليمن من ميليشيا الحوثي، وبسببها بدأت مسيرة التراجع عن المكاسب التي سبق أن حققها الجيش والمقاومة على امتداد جبهات القتال، بفعل تضعضع الغطاء السياسي وغياب الشعور بالأمان عند الحلفاء في الداخل والركيزة الأساسية في مواجهة الحوثيين، إضافة الى المشاكل الأمنية الأخرى في المحافظات المحررة، وصولاً إلى تحول المعركة إلى معركة بينية منذ التمرد الذي قاده المجلس بدعم اماراتي للسيطرة على عدن وما جاورها وطرد قوات الجيش والأمن الشرعية منها في أغسطس 2019، ، والتي امتدت لاحقاً إلى محافظة شبوة.
لكن الرياض لم تتجه إلى الصدام، وعلى العكس، اختارت سياسة الاحتواء، إذ رعت اتفاق الرياض، ودعمت إشراك المجلس الانتقالي الجنوبي في الحكومة، ثم غضت الطرف بعد ذلك عن رفض المجلس تنفيذ بنود الاتفاق بما فيها إخراج قواته من عدن، وضمها في إطار وزارة الدفاع اليمنية.
اتفاق الرياض واستغلال الشراكة
وفي 2022 باركت الرياض أيضا اتفاق نقل السلطة بما أتاح للانتقالي حضوراً فاعلاً في مؤسسات الدولة صار معها هو الولد المدلل، وإليه ذهبت جل القرارات والتعيينات الحكومية بعد ذلك، في محاولة لجمع الفرقاء وتحويل القوة المسلحة إلى فاعل سياسي منضبط داخل إطار الدولة، غير أن هذه السياسة، وفق قراءة سعودية متراكمة، لم تُقابل بالتزام مماثل، فقد ظل السلاح أداة إدارة الخلاف، واستمرت التحركات الأحادية، وتعامل الانتقالي مع الشراكة بوصفها غطاء سياسياً أكثر منها التزاماً متبادلاً.
ومع مرور الوقت، لم تبق هذه الممارسات آثارها داخل الجنوب فقط، بل امتد أثرها إلى التحالف نفسه، فبدلاً من أن تكون المناطق المحررة قاعدة استقرار لمواجهة الحوثيين، تحولت إلى ساحات توتر وصراعات داخلية استنزفت الجهد العسكري والسياسي، وأضعفت البيئة الاجتماعية التي عملت إلى جانب السعودية منذ السنوات الأولى للحرب.
هذا التحول بدأ ينعكس في الخطاب غير الرسمي داخل السعودية، في كتابات صحفيين ومحللين تابعوا الملف اليمني عن كثب، وتحدثوا عن فجوة آخذة في الاتساع بين الخطاب الذي يرفعه الانتقالي وسلوكه على الأرض، حتى جاءت لحظة اجتياح حضرموت والمهرة لتشكّلا لحظة انكشاف لا يمكن تجاوزها.
فالتحركات العسكرية التي نفّذها المجلس الانتقالي هناك، من دون موافقة مجلس القيادة الرئاسي أو تنسيق مع التحالف، لم تُقرأ في الرياض بوصفها خلافاً سياسياً داخلياً، بل باعتبارها مساساً بالمركز القانوني للدولة اليمنية، وإحراجاً مباشراً للتحالف أمام طلبات رسمية من الشرعية، ناهيك عن بعدها الإقليمي إذ ترى فيها المملكة تهديداً خطيراً لحدودها الممتدة مع حضرموت، وإقلاق السكينة والاستقرار في أفضل المناطق اليمنية استقراراً في سنيّ الحرب.
دقة الموقف السعودي وثباته
من هنا، كان المملكة دقيقة وثابتة في توصيف ما جرى، منذ أول تصريح لرئيس اللجنة الخاصة اللواء محمد القحطاني من المكلا في اليوم الأول للاجتياح في الثالث من الشهر الجاري، وصولاً إلى بيان وزارة الخارجية الصادر الخميس الماضي، والذي وصف تلك التحركات بأنها "إجراءات أحادية" و"تصعيد غير مبرر".
وجاء بيان الخميس بعد وصول المملكة إلى لحظة مفصلية، مع انتهائها من تشكيل مظلة دولية جامعة وموقفاً دولياً موحداً يؤكد على وحدة اليمن وأمنه واستقراره وسلامة أراضيه، بالإضافة إلى جملة ترتيبات عسكرية لقوات درع الوطن التي تدعمها والتي نقلت الفرقة الأولى منها من محافظات الضالع وأبين ولحج وعدن، إلى مقر الفرقة الثانية، وجمعت كل القوة لتتمركز في منطقة الوديعة على مقربة من الحدود مع اليمن.
وعقب البيان، انتقلت الأزمة إلى مستوى أعلى حين عقد مجلس الدفاع الوطني اليمني اجتماعاً طارئاً، الجمعة، وتقدّم رئيس مجلس القيادة الرئاسي بطلب رسمي إلى التحالف للتدخل من أجل حماية المدنيين في حضرموت وحماية المركز القانوني للدولة.
وصباح السبت، أعلن التحالف الاستجابة، محذّراً من التعامل المباشر مع أي تحركات تخالف خفض التصعيد، وداعياً إلى خروج قوات المجلس الانتقالي من حضرموت وتسليم المعسكرات للسلطات الشرعية. ولاحقاً في اليوم نفسه، جاءت رسالة الأمير خالد بن سلمان لتضع هذه الخطوات في سياقها الأشمل، مؤكدة أن ما يحدث ليس خلافاً حول القضية الجنوبية، بل حول العبث الذي يقوده المجلس الانتقالي باسمها، وحدود الشراكة، ومعنى الوفاء بالالتزامات.
انهيار فرضية الرياض
من هذا المنظور، لا يبدو الغضب السعودي المتصاعد وليد لحظة، ولا رد فعل انفعالي على تطور بعينه، بل نتيجة لانهيار فرضية راهنت عليها الرياض طويلاً: أن المجلس الانتقالي يمكن دمجه كقوة سياسية منضبطة داخل مشروع الدولة، حتى جاءت لحظة حضرموت والمهرة والتي كشفت أن هذه الفرضية لم تعد قابلة للاستمرار من دون مراجعة عميقة للسلوك والأدوات.
السعودية، التي تبحث اليوم عن استقرار طويل الأمد في محيطها الإقليمي، لم تعد تنظر إلى اليمن بوصفه ساحة إدارة أزمة، بل بوصفه دولة يفترض أن تستعيد مؤسساتها وتوحّد جبهتها في مواجهة مشروع إقليمي أوسع، وفي هذا السياق، تصبح الجماعات التي تفرض وقائع بالقوة، وتفتح صراعات داخلية، عبئاً على هذا الهدف، مهما رفعت من شعارات أو استندت إلى قضايا عادلة.
هنا، يمكن فهم رسالة الأمير خالد بن سلمان بوصفها تذكيراً أخيراً بشروط الشراكة، لا إعلاناً لقطيعة، فهي لا تنفي عدالة القضية الجنوبية، ولا تتراجع عن الدعم الذي قُدِّم، لكنها تضع خطاً فاصلاً بين الدعم بوصفه التزاماً استراتيجياً، والسلوك الذي يحوّله إلى مغامرة.
والسؤال الذي تتركه الرسالة مفتوحاً، ويتجاوز مضمونها المباشر، هو ما إذا كان المجلس الانتقالي قادر على قراءة هذا التذكير بوصفه فرصة للمراجعة، أم أنه سيواصل المسار نفسه حتى تتحول المراجعة إلى إعادة تعريف كاملة للعلاقة.
بهذا، فإن السؤال "لماذا احتاجت الرياض إلى هذا التذكير الآن؟" لا يخص السعودية وحدها، بل يضع مستقبل الشراكة في اليمن كله أمام اختبار حقيقي، عنوانه: هل يمكن تصحيح المسار قبل أن يصبح الغضب بديلاً عن الشراكة، والمراجعة بديلاً عن الدعم؟
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news