يأتي هذا المقال ردّاً على خارطة الطريق التي طرحها الكاتب عبد الرحمن الراشد، ومفادها أن انفصال جنوب اليمن يمكن أن يتحقق خلال ثلاث سنوات إذا اتبع المجلس الانتقالي الجنوبي مساراً بعينه: تجميع موافقة القوى الجنوبية، ثم تمرير القبول عبر مؤسسات “الشرعية” اليمنية، ثم الحصول على مباركة الجوار والتحالف، وصولاً إلى دعم القوى الكبرى وعضوية الأمم المتحدة.
غير أن المقال – على الرغم من لغته الواثقة – وقع في ثمانية أخطاء جوهرية تجعل خارطة السنوات الثلاث أقرب إلى تبرير سياسي منها إلى مسار قانوني قابل للحياة، وهذه الأخطاء هي:
*اختزال الشرعية إلى كلمة واحدة، وكأنها مفتاح سحري، بينما هي سلسلة شروط داخلية وخارجية لا تُبنى بالتصريحات ولا تختصرها الاستفتاءات.
* تقديم الأمم المتحدة كجهة “تمنح الدولة” عبر “ختم”، بينما الواقع أن العضوية قرار سياسي يمر عبر مجلس الأمن والجمعية العامة وفق حسابات الاستقرار والسابقة.
* إساءة القياس على جنوب السودان بتجاهل أن انفصاله جاء كخاتمة لاتفاق سلام وتفاهم مع “الدولة الأم”، لا كإعلان في منتصف حرب وسيادة منقوصة.
*تجاهل المرجعيات الدولية الخاصة باليمن التي تتعامل مع الأزمة بوصفها انقلاباً على دولة يجب استعادتها، لا دولة يُعاد تفكيكها قبل استعادتها.
* افتراض قدرة مؤسسات الشرعية اليمنية حالياً على تقرير مصير الدولة رغم الحرب والانقسام والسيادة المنقوصة وغياب تفويض تأسيسي/دستوري ناضج لقرار بهذا الحجم.
* القفز فوق الانقسام الجنوبي–الجنوبي ومخاطر دولة تولد بلا إجماع داخلي وبلا احتكار للسلاح وبلا ترتيبات موارد وحدود، وهو ما يدفع العالم لرفض الاعتراف خشية إنتاج حرب جديدة.
* التقليل من كلفة التفكيك على أمن البحر الأحمر وباب المندب وتحويل الساحل إلى تعدد سلطات ورعاة ونزاعات موانئ وحدود، وهو ما يجعل التفكيك تهديداً إقليمياً لا “حلاً محلياً”.
*شرعنة منطق الانتهازية الإقليمية: تحويل التفكيك إلى مخرجٍ أنيق لتبرير فشل التدخل في استعادة الدولة وإنهاء الانقلاب، عبر نقل المشكلة من “سياسات وأدوات أخفقت” إلى “وحدة مستحيلة”.
بعد وضع هذه الأخطاء في مكانها، يصبح تفكيك الأطروحة واجباً، لا سجالاً.
1 الأمم المتحدة ليست “ختم دولة”… والشرعية ليست كلمة واحدة
الخطأ الأول في هذه الخارطة أنها تُوحي بأن الدولة تُولد من ختمٍ دولي، وأن التوافق المحلي يمكن أن يتحول سريعاً إلى عضوية أممية متى اكتملت “الشروط”. في الواقع، النظام الدولي لا يمنح الدول؛ بل يسجّل قرارات سياسية تصنعها موازين القوى ومخاوف الاستقرار. العضوية في الأمم المتحدة ليست إجراءً فنياً، بل نتيجة قرار في مجلس الأمن ثم الجمعية العامة؛ أي أنها قرار سياسي باسم الاستقرار، لا “جائزة استحقاق” تُمنح لمن يمتلك علماً وعملة وانتخابات.
ثم إن “الشرعية” ليست مفردة تُقال فتُفتح الأبواب. هي سلسلة مترابطة: شرعية داخلية، إطار دستوري قابل للتطبيق، تمثيل جامع، قدرة مؤسسية على احتكار العنف الشرعي، ثم اعتراف خارجي واسع، ثم قابلية للاستقرار. من يتحدث عن “ثلاث سنوات” يتصرف كأن هذه السلسلة تُستنسخ من ورق، بينما الواقع يقول إنها تُبنى من دولة، لا من كيانات موازية للدولة.
2
جنوب السودان لم ينجح لأنه “أكثر تأهيلاً”… بل لأنه انفصالٌ متفاوضٌ عليه أنهى حرباً
حتى المثال الذي يُستحضر عادةً، جنوب السودان، لا يدعم “وصفة الثلاث سنوات” كما تُقدَّم. جنوب السودان مرّ لأن الانفصال جاء خاتمة لمسار اتفاق سلام وتفاهم مع “الدولة الأم”، ورعاية دولية واسعة رأت أن الانفصال أقل كلفة من استمرار الحرب. الدرس هنا ليس أن “الشرعية” كلمة سحرية، بل أن الانفصال الذي يبتلعه العالم غالباً ما يكون انفصالاً متفاوضاً عليه يُغلق نزاعاً، لا خطوة تُفتح بها نزاعات جديدة داخل الكيان الوليد نفسه.
3
اليمن ليس ملف جنوب يريد دولة بقدر ما هو ملف دولة مخطوفة بانقلاب
هنا تقع المشكلة الثانية: الخارطة تتعامل مع اليمن كدولة مستقرة يمكنها أن تفاوض على تفكيك نفسها ضمن مسار دستوري. وهذا غير صحيح. اليمن اليوم دولة منقوصة السيادة: انقلاب مسلح في الشمال صادر قرار الدولة، وتعدد مراكز قوة وسلاح خارج الدولة في مناطق أخرى، وتداخل إقليمي كثيف في القرار الأمني والاقتصادي.
في هذا السياق، تصبح أولوية القانون والسياسة الدولية –وأولوية مصلحة اليمنيين قبل ذلك– هي استعادة الدولة وإنهاء الانقلاب، لا فتح ملف تفكيك الدولة. لأن تفكيك اليمن في لحظة اختطاف الدولة لا يعني بناء دولتين؛ بل يعني تثبيت أمر واقع مزدوج: شمالٌ تُصادره سلطة انقلابية مسلحة، وجنوبٌ يدخل في سباق داخلي على “الدولة المقبلة” وحدودها ومواردها وموانئها ومراكز قرارها. وبعبارة لا تحتمل التجميل: طرح الانفصال الآن هو نقلٌ لمعركة اليمن من “دولة ضد انقلاب” إلى “كيانات ضد كيانات”، وإعادة توزيع للحرب لا إنهاء لها.
4 شرعية المجلس الرئاسي ليست جسراً لتقويض الدولة
تفترض الخارطة أن المرور عبر مؤسسات الشرعية (المجلس الرئاسي والبرلمان) يمنح مشروع الانفصال غطاءً قانونياً. لكن السؤال الذي يتجاهله هذا التصور: هل هذه المؤسسات –في وضع حرب وانقسام وتشتت– تملك تفويضاً دستورياً وتأسيسياً لتقرير مصير الدولة نفسها؟ وهل يمكن تأسيس قرار سيادي بهذا الحجم في ظل سيادة منقوصة وسلاح خارج الدولة؟
ثم إن المفارقة السياسية هنا فادحة: القيمة الدولية لأي مكوّن داخل الشرعية تنبع من كونه جزءاً من إطار معترف به لإعادة بناء الدولة، لا منصة لتفكيكها. حين تتحول الشرعية إلى مجرد “سُلّم” يُستخدم ثم يُركل، فالرسالة التي تصل للعالم ليست “عملية قانونية”، بل “مناورة موازين قوة”. والعالم، عندما يخاف الفوضى، لا يمنح اعترافاً لكيانات تتشكل بهذه الطريقة.
5 الوحدة اليمنية ليست شعاراً… بل عامل استقرار إقليمي
الخطأ الثالث في خارطة السنوات الثلاث أنها تتعامل مع وحدة اليمن وكأنها شأن داخلي يمكن إعادة ترتيبه دون أثمان خارجية. هذا وهم. اليمن يقع على عقدة أمنية وملاحية حساسة. تفكيكه –من دون تسوية سلام شاملة واستعادة سيادة الدولة– يعني تعدد سلطات على ساحل طويل وموانئ استراتيجية، وسباق نفوذ إقليمي، واقتصاد حرب دائم، وتحول النزاع إلى نزاعات أصغر وأكثر استعصاء.
ودعم مشاريع انفصالية في اليمن يفتح سابقة في الإقليم لا يمكن ضبط حدودها. مبدأ سلامة أراضي الدول ليس قيمة نظرية؛ إنه حاجز حماية في منطقة مليئة بملفات الهوية والحساسيات الحدودية. من يضعف هذا الحاجز في اليمن يضعف مناعة الإقليم كله. والسعودية والإمارات –بحكم الموقع والثقل وتشابك الملفات– ليستا خارج منطق الارتدادات عندما تُكسر القواعد التي تحمي الدول من التفكك.
6 لماذا على “الأشقاء” أن يشرعنوا تفتيت اليمن؟ هذه ليست واقعية… هذا تبرير للفشل
وهنا نصل إلى الفقرة التي يتجنبها كثيرون لأنها محرجة: لماذا يُطلب من دول الجوار، التي قدّمت تدخلها بعنوان “استعادة الدولة وإنهاء الانقلاب”، أن تتحول فجأة إلى مُشرّعٍ لتفتيت اليمن؟ ما الذي يجعل تفكيك دولةٍ مجاورة “حلاً واقعياً” بعد سنوات من العجز عن تحقيق الهدف المعلن؟ الجواب، في الغالب، ليس قانوناً ولا حكمة سياسية، بل محاولة لإعادة تعريف الفشل: حين تفشل مقاربة التدخل في إنهاء الانقلاب وإعادة بناء مؤسسات الدولة، يصبح أسهل مخارج الخطاب هو الادعاء بأن المشكلة ليست في الأدوات ولا في السياسات، بل في “استحالة بقاء اليمن موحداً”. أي نقل المسؤولية من قرارٍ وسياساتٍ وأخطاء، إلى جغرافيا وشعب وتاريخ.
هذا سلوك انتهازي سياسياً وأخلاقياً. لأنه يطلب من اليمنيين أن يدفعوا ثمن فشل الآخرين مرتين: مرة حين تُهدر فرصة استعادة الدولة، ومرة حين يُقدَّم تفكيك الدولة كغطاء أنيق لذلك الفشل. والأسوأ أنه يفتح باباً معيباً في المنطق الإقليمي: من السهل أن تقترح تفتيت بلاد غيرك، وأنت مطمئن أن نار التفكيك لن تقترب منك؛ لكنك في الحقيقة تُضعف القاعدة التي تحميك أنت أيضاً. من يشرعن تفكيك اليمن اليوم يشرعن، من حيث لا يريد، لفكرة أن الدولة في المنطقة قابلة للتجزئة كلما تعثرت السياسة. وهذه ليست “واقعية”، بل مقامرة بمبدأ الدولة في الإقليم كله.
7
أين تذهب القضية الجنوبية إذن؟
الاعتراف بالمظلومية الجنوبية واجبٌ سياسي وأخلاقي، لكن تحويلها إلى ذريعة جاهزة لتفكيك اليمن هو الوجه الآخر للانتهازية: استخدام الألم الحقيقي كغطاءٍ لمشاريع أمر واقع، ولتصفية حسابات نفوذ، ولتدوير فشل مسارات التدخل بدل إصلاح الدولة.
لا يمكن إنكار المظالم الجنوبية ولا التعامل معها كحاشية في النقاش العام. فالعلاقة بين صنعاء وعدن لم تكن “تنافساً عادياً” بين مركزين، بل دخلت الوحدة منذ بداياتها في طورٍ مضطرب صنعته ثلاثة عوامل متراكبة: فساد سياسي تمدّد داخل الدولة الوليدة، وشحن إقليمي ودولي غذّى الاستقطاب ورفع كلفة التسويات، ثم سوء إدارة للمرحلة الانتقالية من قبل شركاء الوحدة أنفسهم؛ بحيث تحولت الشراكة إلى معركة نفوذ داخل مؤسسات الدولة بدل أن تكون جسراً لبناء دولة حديثة.
وما تلا ذلك لم يكن مجرد “أخطاء إجرائية”، بل مساراً سياسياً واضح الملامح: إقصاءٌ منظم وإجراءاتٌ عقابية طالت الحزب الاشتراكي وقطاعاً واسعاً من كوادره وأنصاره، وجرى التعامل مع الجنوب –عملياً– كملف أمني/غنيمة سياسية أكثر منه شريكاً متكافئاً في دولة. هذه الخلفية هي التي صنعت، في الوعي الجنوبي، فكرة “الضمانات المفقودة” لا مجرد الحنين إلى كيان سابق.
لكن الاعتراف بهذه المظالم لا يفضي تلقائياً إلى وصفة التفكيك، لأن علاج الخلل لا يكون بتعميمه. الطريق العقلاني هو: استعادة الدولة أولاً ثم إعادة تأسيس عقد سياسي عادل: لامركزية حقيقية، ضمانات واضحة للثروة والسلطة، مؤسسات أمنية وطنية غير مُسيّسة، وعدالة انتقالية تُنصف الضحايا وتمنع تكرار الإقصاء. أما تحويل الانفصال إلى “مشروع ثلاث سنوات” في ظل حربٍ وانقلابٍ وسيادة منقوصة، فليس إنصافاً للجنوب، بل إنتاجٌ لمظالم جديدة داخل الجنوب نفسه، وتكريسٌ لانقلاب الشمال، وتوسيعٌ لدائرة الصراع بدل إغلاقها.
التعهد الذي يجب أن يعود إلى الصدارة: استعادة الدولة وإنهاء الانقلاب
حين دخلت السعودية والتحالف إلى اليمن كان العنوان المعلن: استعادة الشرعية وإنهاء الانقلاب. هذا هو معيار المساءلة السياسية والقانونية. فإذا تحولت الأولوية من “استعادة الدولة” إلى “إدارة التفكك”، نكون قد استبدلنا هدف الاستقرار بهدف آخر: تدوير الأزمة في أشكال جديدة، وإعطاء الانقلاب مكافأة استراتيجية اسمها “الاعتراف بالأمر الواقع”.
الخلاصة التي ينبغي أن تُقال بلا مواربة
:
خارطة الراشد، إذا اتبعها المجلس الانتقالي كما هي، لا تضمن “دولة جنوب” معترفاً بها خلال ثلاث سنوات، بقدر ما تفتح باباً لسنوات طويلة من صراعات جنوبية–جنوبية، وتثبيت انقلاب الشمال، وتوسيع دائرة التنافس الإقليمي، وإضعاف مبدأ وحدة الدول الذي يحمي المنطقة كلها.
اليمن يحتاج اليوم إلى طريق واحد واضح: استعادة الدولة اليمنية وإنهاء الانقلاب، ثم معالجة القضية الجنوبية داخل مشروع دولة عادلة وقادرة. ما عدا ذلك ليس طريقاً إلى دولة، بل طريقٌ إلى خرائط جديدة للحرب.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news