العدالة الغائبة وجريمة الدولة .. لماذا تصمت الشرعية عن حق اليمنيين؟
قبل 5 دقيقة
مرّت أربعة عشر عامًا على واحدة من أخطر الجرائم في التاريخ السياسي اليمني المعاصر، جريمة لم تستهدف شخصية سياسية فحسب، بل ضربت الدولة في صميمها، حين جرى تفجير مسجد دار الرئاسة في الثالث من يونيو 2011 أثناء أداء الصلاة، في محاولة اغتيال طالت رئيس الجمهورية السابق الشهيد علي عبد الله صالح وعددًا من كبار قيادات الدولة. ومنذ ذلك اليوم، لم يعرف اليمن طريق الاستقرار، ولم يتوقف نزيف الدم، وكأن تلك الجريمة كانت بوابة الفوضى الكبرى التي ابتلعت الوطن.
هذه الجريمة لم تكن حادثًا عرضيًا ولا نتيجة خطأ أمني، بل فعلًا إرهابيًا مكتمل الأركان، خطط له ونُفذ بوعي سياسي إجرامي، مستهدفًا رمز الدولة ومؤسساتها وهيبتها، ومنتهكًا حرمة بيت من بيوت الله. ومع ذلك، ظل هذا الملف حبيس الصمت، وكأن دماء الشهداء لا تعني الدولة، وأن حق الشعب يمكن تجاوزه بالتقادم أو بالتسويات السياسية.
قبل أن يظهر الحوثي بصراخه الطائفي وسلاحه الإيراني، كانت منابر جماعة الإخوان المسلمين وساحاتهم تضج بخطاب التحريض والفوضى، وكانت شعارات “إسقاط النظام” تُرفع في الجوامع والمدارس والشوارع، دون اعتبار لعواقبها.
رفض الإخوان الحوار، وأُفشلت المبادرات، وقوبلت التنازلات السياسية التي قُدمت لحقن الدماء بالمزيد من التصعيد، حتى تُرجمت تلك التعبئة بجريمة هزّت العالم، وأدخلت اليمن في نفق مظلم لا يزال عالقًا فيه حتى اليوم.
محاولة تصفية رئيس الدولة داخل مسجد رسمي لم تكن مجرد رسالة سياسية، بل إعلان صريح بانهيار الخطوط الحمراء، وبداية مرحلة تُدار فيها السياسة بالعبوات الناسفة لا بصناديق الاقتراع. ومنذ تلك اللحظة، توالت عمليات تفجير المساجد، واغتيال الشخصيات، وانهيار المؤسسات، وتمدّد الميليشيات المسلحة، في مشهد يؤكد أن الجريمة الأولى لم تكن نهاية، بل بداية سلسلة من الكوارث.
ومع مرور السنوات، لم نشهد مراجعة حقيقية ولا اعترافًا بالخطأ من القوى التي دفعت بالبلاد إلى الهاوية. بل استمر الخطاب الإقصائي ذاته، والعقلية نفسها التي ترى نفسها وصية على الوطن، وترفض الشراكة والحوار، وتعيد إنتاج الفشل تحت عناوين مختلفة. أربعة عشر سنة وأكثر من الدم والدمار لم تكن كافية لإحداث صحوة ضمير أو تغيير في السلوك السياسي.
الأخطر من ذلك، هو محاولة التخفيف من بشاعة جريمة مسجد دار الرئاسة عبر حملات التشويه والاستخفاف، وكأن تغيير الأوصاف يغيّر الحقيقة. غير أن الوعي الجمعي للشعب اليمني ظل مدركًا أن ما جرى في 2011 كان نقطة التحول الأخطر، وأن استهداف رأس الدولة، ممثلًا بالزعيم علي عبد الله صالح، داخل مسجد هو ما كسر هيبة النظام، وفتح الطريق لاحقًا أمام الحوثي للانقضاض على صنعاء، وتحويل اليمن إلى ساحة صراع إقليمي.
اليوم، وبعد كل هذه السنوات، تبرز مسؤولية الشرعية اليمنية ومجلس القيادة الرئاسي والحكومة، مسؤولية لا تقبل التهرب أو التسويف. فالقضية لم تعد مرتبطة بشخص علي عبد الله صالح، ولا بحزب المؤتمر الشعبي العام، بل أصبحت قضية وطن، وحق شعب، ودماء شهداء، وآهات جرحى، ودموع أسر دفعت الثمن الأغلى.
إن صمت مجلس القيادة الرئاسي والحكومة عن ملاحقة ومحاكمة المتورطين في هذه الجريمة يمثل فشلًا أخلاقيًا وسياسيًا، ويطرح تساؤلات خطيرة حول جدية الشرعية في بناء دولة القانون. كيف يمكن الحديث عن استعادة الدولة بينما تُترك أخطر جريمة في تاريخها بلا محاسبة؟ وكيف يُطلب من الشعب الثقة بمؤسسات لا تملك الشجاعة لفتح هذا الملف؟.
إن العدالة ليست انتقامًا، بل شرط أساسي للاستقرار. والتغاضي عن الجرائم الكبرى لا يصنع سلامًا، بل يؤسس لدورات جديدة من العنف. وما جرى لاحقًا من اغتيال الرئيس السابق في 2017، وتمكين ميليشيا الحوثي الإرهابية من السيطرة على العاصمة، وجرّ اليمن إلى صراع إقليمي، لم يكن سوى نتيجة طبيعية لمسار بدأ يوم سُمح لجريمة مسجد دار الرئاسة أن تمر بلا عقاب.
الرهان على الزمن لطمس الحقيقة رهان خاسر. فدماء الشهداء لا تجف، وذاكرة الشعوب لا تُمحى، والدول لا تُبنى على النسيان القسري. إن الجسد اليمني المنهك لا يمكن أن يتعافى دون مواجهة الحقيقة المؤلمة، ودون عدالة تُعيد الاعتبار للدولة وهيبتها.
اليوم، ومع المتغيرات الإقليمية والدولية، تمتلك الشرعية فرصة تاريخية لإعادة فتح هذا الملف، وإثبات أنها تمثل الدولة لا التسويات، والعدالة لا المصالح الضيقة. إن محاكمة مرتكبي جريمة مسجد دار الرئاسة ليست خيارًا سياسيًا، بل واجب وطني، وخطوة مفصلية على طريق استعادة اليمن.
فلا مستقبل لوطن تُدفن فيه الجرائم تحت ركام الصمت، ولا كرامة لدولة تخشى مواجهة قاتليها. وجريمة مسجد دار الرئاسة ستظل شاهدة على لحظة سقوط، ما لم تتحول إلى لحظة صحوة وعدالة، تعيد لليمن حقه، وللشهداء اعتبارهم، وللدولة معناها.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news