لم يكن لقاء عدن في 20 مايو 2025 مجرد خطوة لتعزيز التنسيق الإعلامي بين ذراعي “المجلس الانتقالي الجنوبي” و“المقاومة الوطنية”، بل مثّل مؤشرًا سياسيًا عن ولادة “تحالف هجين”، يُدار برؤية إماراتية كاملة، ويُنفّذ على أرض يمنية مثقلة بالأزمات.
ويبدو أن هذا التحالف لا يستند إلى مشروع وطني جامع، وإنما يقوم على تقاطعات مصالح مرحلية بين مشروع انفصالي مُعْلَن وإرث جمهوري مُفرّغ من مضمونه، في صيغة فرضتها إرادة الداعم الإقليمي، الذي صاغ ما يشبه “هدنة الذئاب” لتقاسم النفوذ، مع تعليق التناقضات السياسية والأيديولوجية مؤقتًا، لا حلّها.
ولا يُقرأ هذا التنسيق باعتباره غاية بحد ذاته، بل كأداة وظيفية لتسويق تحالف هش يُقدَّم للرأي العام كضرورة وطنية لمواجهة جماعة الحوثي المدعومة من إيران، بينما جوهره الحقيقي يتمثل في إدارة مناطق نفوذ منفصلة تماماً عن سلطة الدولة، وتقنين واقع التشظي السياسي والجغرافي تحت لافتة “المعركة المشتركة”.
تكريس تعدد مراكز القرار
تشير المعطيات إلى أن هذا التحالف الإعلامي يرتبط عضوياً بالخريطة الميدانية لعام 2025، والتي تكشف عن توزيع ممنهج للأدوار والمساحات الجغرافية، بما يخدم أجندات تتعلق بالملاحة في البحر الأحمر وخليج عدن ومصالح المموّل الإقليمي في المنطقة.
"التوزيع الوظيفي يهدف فعليًا إلى مواجهة الحوثي بقدر ما يكرّس “تعدد المراكز” بديلًا عن الدولة، ويحول السيادة الوطنية إلى تفاهمات غير معلنة بين أطراف إقليمية عبر وكلاء محليين"
ففي حين يُعزّز المجلس الانتقالي نفوذه في عدن وسقطرى وأجزاء من المحافظات الشرقية لتأمين بحر العرب، يرسّخ "طارق صالح" وجوده العسكري والسياسي في الساحل الغربي من المخا وصولاً إلى باب المندب، لتأمين الممرات الحيوية في البحر الأحمر.
ولا يبدو أن هذا التوزيع الوظيفي يهدف فعليًا إلى مواجهة الحوثي بقدر ما يكرّس “تعدد المراكز” بديلًا عن الدولة، ويحول السيادة الوطنية إلى تفاهمات غير معلنة بين أطراف إقليمية عبر وكلاء محليين، ويتولّى الإعلام المشترك تطويع الوعي العام لتقبل هذا كأمر واقع.
إعادة تدوير الذاكرة
في ذكرى “انتفاضة 2 ديسمبر”، وجّه المجلس الانتقالي تهنئة للمكتب السياسي للمقاومة الوطنية، واصفاً ذلك الحدث بأنه “محطة مفصلية” كشفت طبيعة المشروع الحوثي ومهّدت لتشكيل المقاومة الوطنية.
ويلاحظ أن هذا الخطاب يأتي كجزء من عملية إعادة تدوير الذاكرة السياسية، عبر القفز على التناقضات السابقة بين الطرفين، وبناء “سردية هجينة” تُقدّم الطرفين كامتداد لمسار واحد، رغم اختلاف المرجعيات والأهداف. وهي رسالة تتجاوز الداخل إلى الرأي العام الإقليمي أيضاً، تفيد بأن الخلافات الجذرية قابلة للتعليق متى ما اقتضت المصلحة، وأن الثوابت ليست سوى أوراق تفاوض.
هندسة وعي
جاءت أحداث حضرموت الأخيرة لتكشف حقيقة التموضع الإعلامي المشترك، فقد ظهرت فضائية “الجمهورية” التابعة لطارق صالح كرأس حربة في دعم التحشيد العسكري للمجلس الانتقالي واجتياحه للمحافظة التي ظلت بعيدة نسبيًا عن الصراع طوال العقد الماضي. ويأتي اجتياح الانتقالي لحضرموت والمهرة في سياق صراع واضح للسيطرة على مناطق الثروة والنفوذ الجيوستراتيجي.
ووقعت المنظومة الإعلامية لـ"طارق صالح" في تناقض قانوني واضح، حيث وصفت قوات “حلف قبائل حضرموت” المدافع عن أرضها وثرواتها بـ“الميليشيا”، وهو توصيف ينطبق، بالمعايير ذاتها، على "قوات طارق" نفسها التي تعمل خارج إطار وزارتي الدفاع والداخلية، وأيضًا على قوات الانتقالي التي يرفض المجلس دمجها في القوات الحكومية وفقًا لـ“اتفاق الرياض” الموقع أواخر العام 2019.
"يؤكد المشهد الحالي أن التحالف الإعلامي ليس موجهًا نحو مواجهة الحوثي، بل يسعى لإعادة هندسة الهوية العسكرية والسياسية للمحافظات المستقرة، وتحويلها إلى كانتونات نفوذ إقليمية على حساب الثوابت الوطنية"
هذا الانحياز أعاد إلى الأذهان الدور الملتبس الذي لعبته المنظومة الإعلامية المرتبطة بعائلة صالح قبيل سقوط صنعاء عام 2014، وقد أسهم نشاطها المضلل في تمهيد الطريق لمسلحي جماعة الحوثي لاجتياح العاصمة اليمنية وإسقاطها وإلحاقها بالمشروع الإيراني.
ويؤكد المشهد الحالي أن التحالف الإعلامي ليس موجهًا نحو مواجهة الحوثي، بل يسعى لإعادة هندسة الهوية العسكرية والسياسية للمحافظات المستقرة، وتحويلها إلى كانتونات نفوذ إقليمية على حساب الثوابت الوطنية التي طالما استُهلكت كشعارات للاستخدام المحلي.
مسار تراكمي
لم يأتِ التحالف بين المجلس الانتقالي والمقاومة الوطنية فجأة، بل نتاج مسار تراكمي بدأ قبل أشهر، اتسم بتقاطع الخطاب، وتبدّل الأولويات، وإعادة ترتيب العداوات والتحالفات، ونضج في سياق سياسي وأمني أوسع، برعاية إقليمية ودعم إماراتي مباشر.
وظهر هذا الاصطفاف في الأشهر الماضية. فبينما كثّفت وسائل إعلام الانتقالي هجومها على “الحكومة الشرعية” واتهامها بالعجز وانعدام الإرادة، تبنّت منصات موالية لطارق صالح خطابًا مشابهًا، ركّز على تحميل قوى وطنية مسؤولية “إفشال المعركة الوطنية” واستثمار الحرب سياسيًا.
هذا التقاطع جاء في توقيت واحد، وبمفردات متشابهة يعكس تنسيقًا غير معلن في استهداف الحكومة والقوى الوطنية المساندة لها كهدف مشترك.
تأكيد قيادي للتقارب
عقب الاصطفاف الإعلامي الذي رافق تحركات الانتقالي في حضرموت والمهرة، وتجاوزه لإرادة أبناء حضرموت وأصواتهم الرافضة لهذه الخطوة، وجهود المملكة العربية السعودية الحثيثة لخفض التصعيد، جاء الاتصال الهاتفي بين زعيم الانتقالي عيدروس الزبيدي، وقائد المقاومة الوطنية طارق صالح، في 11 ديسمبر، ليؤكد على “وحدة المعركة” وضرورة تنسيق الجهود بعيدًا عن الصدامات الجانبية.
"بينما كثّفت وسائل إعلام الانتقالي هجومها على “الحكومة الشرعية” واتهامها بالعجز وانعدام الإرادة، تبنّت منصات موالية لطارق صالح خطابًا مشابهًا، ركّز على تحميل قوى وطنية مسؤولية “إفشال المعركة الوطنية” واستثمار الحرب سياسيًا"
وعكست لغة البيان إعادة ترتيب بوصلة التحالفات الميدانية بعيدًا عن الإشكاليات الجوهرية المتعلقة بالانفصال أو وحدة الدولة، ونظر إلى هذا التواصل باعتباره تأكيدًا للتحالف على مستوى قيادة كلا الفصيلين الممولين من مصدر إقليمي واحد، ويعملان بإشرافه في جغرافيا حساسة.
صعود سلطة الوكيل
تشير المعطيات إلى أن النتيجة النهائية لهذا التحالف هي التغييب الممنهج لمؤسسات الدولة، واستخدام لافتة مواجهة الحوثي كغطاء لإضعاف المركز القانوني للدولة لا تعزيزه.
ويظهر ذلك في الانحياز التحريري الحاد لمنصات الطرفين، والتي أفردت مساحات واسعة لتحركات الزُبيدي وطارق صالح، مقابل تغييب شبه كامل لرئيس مجلس القيادة الرئاسي، في مسعى واضح لتحويل الشرعية المعترف بها دولياً إلى واجهة بروتوكولية بلا تأثير.
"مواقف المجتمع الدولي المتكررة التي تشدد على وحدة اليمن وسيادته وسلامة أراضيه، غابت عن تغطيات إعلام طارق صالح وفي مقدمتها قناة “الجمهورية”"
وبهذا، يصبح الحديث عن “المعركة الوطنية” مجرد غطاء لإعادة هندسة السلطة، وتفكيك ما تبقى من الدولة، حيث يُصاغ القرار السيادي في غرف عمليات تُدار من خارج الحدود، لتهيئة الشارع المحلي للقبول بواقع “اليمن المقسّم”.
الوحدة الوطنية خارج التغطية
يلاحظ أن مواقف المجتمع الدولي المتكررة التي تشدد على وحدة اليمن وسيادته وسلامة أراضيه، غابت عن تغطيات إعلام طارق صالح وفي مقدمتها قناة “الجمهورية”، بما في ذلك تصريح سفيرة المملكة المتحدة لدى اليمن عبده شريف، التي أكدت هذه الثوابت عقب لقائها برئيس الوزراء سالم بن بريك.
وعلى استحياء، نشرت القناة بيان مجلس الأمن بعد نحو أربع ساعات من تداوله الواسع على وسائل الإعلام ومنصات التواصل، رغم تأكيده “الدعم القوي” لوحدة اليمن وسيادته واستقلاله وسلامة أراضيه، ودعم مجلس القيادة.
"يكشف هذا التناسق عن تناغم وظيفي مع مسار أوسع لإعادة رسم الأولويات والاصطفافات، بحيث يُعاد تعريف الخصومة والحلف وفق منطق النفوذ، ويُقدَّم رفض التقسيم بوصفه عبئاً سياسياً، لا موقفاً وطنياً"
ويتكامل هذا الأداء الإعلامي مع الخطاب الإماراتي الذي يروّج لتقسيم اليمن، عبر تبنّي سردية تقدّم الانفصال باعتباره “حلاً واقعياً”، وتمنح الانتقالي موقع الفاعل المركزي، مع تسويق تمدده العسكري كضرورة سياسية وأمنية، في مسار يهدف لتفكيك الدولة وإعادة تركيبها وفق خرائط النفوذ.
ويأتي هذا الخطاب المتناسق في إطار حملة متزامنة تشنّها دوائر إعلامية وشخصيات سياسية وإعلامية محسوبة على طارق صالح، تستهدف الأصوات الوطنية الرافضة لمشروع تقسيم اليمن والمتمسكة بوحدته وسيادته.
واتسمت الحملة بتصعيد واضح في نزع الشرعية عن أي موقف وطني جامع، عبر التشكيك بالمخالفين ووصمهم بصفات الخروج عن “المعركة”، وهو ما فُسّر محليًا كمحاولة لتجفيف مساحة الاعتراض السياسي.
وإجمالًا، يكشف هذا التناسق عن تناغم وظيفي مع مسار أوسع لإعادة رسم الأولويات والاصطفافات، بحيث يُعاد تعريف الخصومة والحلف وفق منطق النفوذ، ويُقدَّم رفض التقسيم بوصفه عبئاً سياسياً، لا موقفاً وطنياً.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news