الاستبداد الاقتصادي
قبل 18 دقيقة
يظن البعض أن الاستبداد يقتصر فقط على الجوانب السياسية، وهذا غير صحيح، رغم اقتران مفهوم الاستبداد بالسياسة؛ فهناك أنواع عديدة من الاستبداد، منها الاستبداد الاقتصادي، والاستبداد الاجتماعي، والاستبداد الديني، وغيرها.
ومثلما تمارس فئة معينة الاستبداد السياسي، وهي فئة الحكّام والسلاطين والمسؤولين والقادة، فإن هناك فئة أخرى تمارس الاستبداد الاقتصادي، وهي فئة رجال المال والأعمال (أصحاب رؤوس الأموال). فهذه الفئة تتحكم وتسيطر على السوق ووسائل الإنتاج، وتربطها علاقة وثيقة، ومصالح مشتركة، وشراكة قوية، ومنافع متبادلة مع قادة الاستبداد السياسي في كل زمان ومكان.
فالطرف الأول يوفّر للطرف الثاني الحماية والقوة والتسهيلات والإعفاءات واحتكار السوق، بينما يوفّر الطرف الثاني للطرف الأول الأموال والثروات والأرباح والمكاسب. بل إن رجال المال والأعمال وأصحاب الثروات الكبيرة، في أحيان كثيرة، هم من يديرون المشهد السياسي، وهم من يقررون من يحكم، ومن يسقط، ومن يفوز، ومن يخسر، وهكذا.
وبذلك فإن الاستبداد الاقتصادي هو نتيجة علاقة مشبوهة بين قادة السياسة ورجال المال والأعمال، علاقة هدفها استغلال السوق واحتكار أدوات الإنتاج لتحقيق أكبر قدر من الأرباح، ولو كان ذلك على حساب معاناة المواطنين وتدهور أوضاعهم الاقتصادية والمعيشية..!!
ومن أجل ذلك، دأبت بعض أنظمة الحكم على منع قادة السياسة من مزاولة أي أعمال تجارية خلال فترة عملهم. ورغم أن هذه المحاولات نجحت جزئيًا في الظاهر (الجانب النظري)، فإنها لم تستطع منع تلك العلاقة في الباطن (الجانب العملي).
وهناك أنظمة حكم، كالنظام الرأسمالي، تمنح رجال المال والأعمال والتجّار الحق في تولّي أعلى المناصب السياسية؛ فعن طريق الانتخابات قد يصل أصحاب الشركات ورؤوس الأموال إلى رأس هرم السلطة (الرئيس الأمريكي ترامب نموذجًا).
كما أن هناك أنظمة حكم جعلت وسائل الإنتاج ورأس المال بيد الحكومة، كالنظام الشيوعي الاشتراكي، في محاولة للقضاء على طبقة رجال المال والأعمال وأصحاب رؤوس الأموال، إذ يرى هذا النظام أن هذه الطبقة تحقق الأرباح والمكاسب على حساب معاناة الطبقة العاملة. ورغم مثالية هذه الأفكار من الناحية النظرية، فإنها تعرّضت للفشل عند تطبيقها على أرض الواقع (الاتحاد السوفيتي نموذجًا)، لأن وسائل الإنتاج والشركات والمصانع عندما تكون مِلكًا للقطاع العام تتعرض للإهمال، بعكس الحال عندما تكون مِلكًا للقطاع الخاص..!!
وبقراءة الواقع، والبحث في كتب التاريخ، نجد أن المال والاقتصاد هما المحرّك الفعلي لكل التفاعلات السياسية في كل زمان ومكان، وأن كل استبداد سياسي لا بد أن يرافقه استبداد اقتصادي. بل إن الاستبداد الاقتصادي أشدّ ضررًا وأوسع انتشارًا من الاستبداد السياسي، خصوصًا في عالم اليوم الذي تهيمن عليه العولمة الاقتصادية وتحكمه الرأسمالية العالمية.
فقد أصبح اقتصاد الدول والشعوب، وسعر عملاتها، وقوتها الشرائية، مرتبطًا بالعملة العالمية (الدولار الأمريكي)، وأصبحت الشركات العالمية العابرة للحدود تمتلك ثروات ورؤوس أموال وإيرادات تفوق ميزانيات وإيرادات العديد من الدول. بل إن رؤساء تلك الشركات باتوا يمتلكون ثروات طائلة تتجاوز ميزانيات عدة دول مجتمعة (إيلون ماسك نموذجًا، والذي تُقدَّر ثروته بنحو 600 مليار دولار)، في حين تعيش شعوب يُقدَّر عدد سكانها بعشرات الملايين تحت خط الفقر، ودول لا تتجاوز ميزانياتها بضعة مليارات من الدولارات.
إنها حالة تُظهر إلى أي مدى وصل الاستبداد الاقتصادي: الغِنى الفاحش لأفراد وشركات على حساب الفقر المدقع لشعوب يُقدَّر عددها بمئات الملايين. كما أن القوى الاقتصادية العالمية تتحكم بكمية طباعة العملة الوطنية لكل دولة، وتحديد قيمتها مقابل الدولار، في صورة تعكس حجم معاناة الشعوب الفقيرة من الاستبداد الاقتصادي العالمي، الذي يساهم في زيادة فقرهم ومعاناتهم، إلى جانب معاناتهم من فساد وفشل قيادات بلدانهم، وجشع وطمع التجّار ورجال الأعمال المحليين.
وكلما استفحل الاستبداد الاقتصادي، زادت نسبة الفقر في أوساط المجتمعات البشرية، ولا سيما الفقيرة والنامية منها..!!
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news