بشرى العامري:
لم يكن الألم في اليمن يوما حكرا على جغرافيا بعينها، ولا كانت المظلومية يوما حكرا على الشمال أو الجنوب، كما تحاول بعض الخطابات السياسية اليوم أن تصوّرها. فاليمن، بكل جهاته، عاش لعقود طويلة تحت سلطة مركزية فاسدة ونرجسية، لم ترَ في الوطن سوى غنيمة، ولا في الشعب سوى أدوات تُستَخدم ثم تُقصى متى انتهت الحاجة إليها.
فمنذ سبعينات القرن الماضي، كان القتل والتهميش سياسة ممنهجة لا تميّز بين منطقة وأخرى، كل من عارض السلطة أو حاول البحث عن مصلحة عامة للوطن كان هدفا مشروعا، أيا كان انتماؤه الجغرافي أو الاجتماعي.
فمثلا قُتل أبناء إب بأعداد كبيرة، واغتيلت رموز وطنية بارزة، كان من بينها جار الله عمر، لأنه مثّل صوتا مختلفا داخل منظومة لا تحتمل التعدد الحقيقي، وهُمِّش أبناء ريمة وأُخرجوا من معادلة الدولة، وشُوّهت مأرب عمدا، وسُوّق أبناؤها كقطاع طرق وأوباش لتبرير قتلهم وإقصائهم، ووُضعت البيضاء في خانة “الإرهاب” وصُنّفت كـ”وكر للقاعدة” لتُستباح. أما صعدة، التي تُركت طويلا خارج إطار الدولة والجمهورية، فقد تحولت لاحقا إلى ساحة عبث مفتوح، قُتل فيها أكثر من ستين ألف جندي يمني في حروب عبثية، كانوا من كل مناطق اليمن بلا استثناء.
في شمال الشمال، أُبيدت قرى كاملة تحت نظر السلطة، دون تحقيق جدي أو مساءلة حقيقية، تعز لم تسلم أيضا فقد شُيطنت، وحُرمت من أبسط الخدمات، لأنها تجرأت على الحلم بدولة قانون. أما الجنوب، فقد كان ولا يزال جزءا أصيلا من هذا المشهد المؤلم، عانى الإقصاء والنهب والتهميش، لكنه لم يكن وحده من دفع الثمن، بل كان جزءا من وطن كامل أُنهك تحت ذات المنظومة.
ومع ذلك، فإن الإنصاف يقتضي ألا نقع في فخ تلميع الماضي أو تقديم الجنوب قبل الوحدة كـ”جنة مفقودة”. فالتاريخ الموثق يشير بوضوح إلى أن الجنوب، في ظل جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، لم يكن هو الآخر نموذجا للدولة العادلة أو المستقرة. شهد الجنوب صراعات دموية داخلية متكررة، أبرزها أحداث 13 يناير 1986، التي تحولت إلى حرب أهلية داخلية في عدن وعدد من المحافظات، وأسفرت عن مقتل الآلاف من القيادات السياسية والعسكرية والمدنية، ونزوح عشرات الآلاف إلى الشمال وخارجه.
لم تكن تلك الأحداث استثناءً، بل نتيجة طبيعية لنهج إقصائي اعتمد على تصفية الخصوم داخل الحزب الواحد، وتحويل الخلاف السياسي إلى صراع دموي. كما عرفت مناطق واسعة من الجنوب أشكالا متعددة من القمع السياسي، حيث امتلأت السجون بالمخالفين فكريا وسياسيا، وتعرض كثيرون للإعدام أو الإخفاء القسري أو النفي.
لم تكن الدولة آنذاك دولة مؤسسات بالمعنى الحقيقي، بل دولة حزب واحد يحتكر السلطة والحقيقة ويجرّم الاختلاف.
وعلى المستوى المعيشي، عاشت محافظات جنوبية كثيرة في عزلة شبه كاملة عن محيطها الإقليمي والعربي، بفعل سياسات الانغلاق والاصطفاف الأيديولوجي خلال الحرب الباردة. خارج عدن، عانت مناطق واسعة من ضعف الخدمات وشح الفرص، وتقييد الحركة والسفر، بينما سيطرت الدولة على مفاصل الحياة الاقتصادية والاجتماعية بشكل صارم، دون قدرة حقيقية للمجتمع على المبادرة أو التنمية المستقلة. كما صودرت أملاك، وهُجّرت أسر، وتفككت بنى اجتماعية كاملة، ولا تزال آثار تلك المرحلة حاضرة حتى اليوم.
إن الإقرار بهذه الحقائق لا ينتقص من مظلومية الجنوب بعد الوحدة، ولا يبرر ما تعرض له من نهب وإقصاء وتهميش، لكنه يضع الأمور في سياقها الصحيح، وهي أن الجنوب لم ينتقل من حالة مثالية إلى جحيم، بل انتقل من تجربة سلطوية مغلقة إلى سلطة مركزية فاسدة أوسع، فدفع الثمن مضاعفا.
لقد حكمت اليمن، شمالا وجنوبا، سلطة لم تؤمن يوما بالدولة، ولا بالقانون، ولا بجيش وطني حقيقي.
سلطة احتكرت الثروة والقرار والمناصب لصالح الحاشية والأسرة، وخلقت فوضى سياسية وحزبية تحت مسمى “التعددية”، بينما كانت في حقيقتها تفتيتا للمجتمع، وتسييسا سيئا لإنسان بسيط لم تُمنح له أدوات الوعي، بل استُخدم ليخدم السياسة والساسة، لا العكس.
وهكذا تشكّل شعبٌ مثقل بالفقر والديون، مسلح، مناطقي، تُغذّى فيه النزعات العنصرية، ويُفرغ من القيم والأخلاق والوازع الحقيقي، ويُدفع للهروب نحو القات والكيف، حتى يصبح سهل الانقياد لأي طرف مقابل حفنة من المال أو وعد زائف بالخلاص.
واليوم، وبعد كل هذا الخراب، يخرج من يدّعي المظلومية وحده، في أقصى الشمال كان أو الجنوب، متناسيا أن الجلاد واحد، وأن المنظومة التي دمّرت الجنوب هي ذاتها التي دمّرت الشمال، ولا تزال بأسماء مختلفة وأدوات جديدة تتحكم في مفاصل القرار في كل مناطق اليمن.
إن اختزال الأزمة في الانفصال، أو في صراع شمال جنوب، ليس حلا، بل هروب من جوهر المشكلة. فالمشكلة لم تكن يوما في الجغرافيا، بل في منظومة فساد عميقة الجذور، أعادت إنتاج نفسها مرارا، وتتغذى على الانقسام، وتعيش على خطاب المظلومية الانتقائية.
ولا خلاص لليمن بتقسيم وجعه، ولا نجاة له بتكريس الكراهية بين أبنائه، بل بتوحّد وطني حقيقي، يتجاوز الشعارات، ويستهدف هذه المنظومة الفاسدة أينما وُجدت، شمالا وجنوبا، شرقا وغربا. فإما أن يسقط هذا الإرث الثقيل، أو نظل جميعا، بلا استثناء، ندفع ثمنه جيلا بعد جيل.
إن الخروج الحقيقي من دوّامة الصراع والمظلومية والاقتتال، لا يكون بإعادة إنتاج الماضي، ولا بتقسيم الوطن إلى كيانات متناحرة، بل بإقامة دولة اليمن الاتحادي بوصفها الحل الأكثر عدالة وواقعية لإنهاء كل الصراعات والخلافات القائمة اليوم.
ودولة اليمن الاتحادي لا تعني تفكيك اليمن، ولا تعني عودة المركزية بثوب جديد، بل تعني دولة واحدة موحدة بنظام اتحادي عادل، تُوزَّع فيها السلطة والثروة توزيعا منصفا، وتُدار شؤون الأقاليم بإرادة أبنائها، في إطار دستور ضامن، وقانون سائد على الجميع، ومؤسسات لا تُختطف لصالح منطقة أو جماعة أو أسرة.
في الدولة الاتحادية، لا يعود الشمال متسلطا ولا الجنوب مظلوما، ولا تُستخدم المظلومية كسلاح سياسي، لأن القرار المحلي يصبح بيد الناس، والتنمية تُصمَّم وفق احتياجات كل إقليم، لا وفق مزاج المركز.
دولة اتحادية تُنهي احتكار القوة، وتعيد بناء جيش وطني مهني، وأجهزة أمن تحمي المواطن لا الحاكم، وقضاء مستقل يُنصف الجميع بلا استثناء.
اليمن الاتحادي هو الإطار الوحيد القادر على تفكيك منظومة الفساد التاريخية، لأنه يسحب منها أدوات السيطرة, المال، والسلاح، والمركز، ويعيدها إلى الشعب عبر مؤسسات منتخبة ورقابة حقيقية، وهو الضامن لعدم عودة الاستبداد، لأن السلطة فيه موزعة، والمساءلة فيه ممكنة، والاحتكار فيه مستحيل.
بهذا المعنى، فإن دولة اليمن الاتحادي ليست تسوية سياسية مؤقتة، بل مشروع خلاص وطني، ينهي صراع الشمال والجنوب، ويطفئ نيران المناطقية والطائفية، ويعيد لليمنيين ثقتهم بأن الدولة يمكن أن تكون حامية لا جلادا، وخادمة لا غنيمة.
نحن أمام خيارين فإما دولة اتحادية عادلة، أو استمرار الدوران في حلقة الدم والخراب، وما بين الخيارين، نقف جميعاً اليوم أمام مسؤولية وطنية وتاريخية، وواجب إنقاذ وطنٍ لم يعد يحتمل المزيد من الأوهام، والانقسام.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news