في سوق “الحراج” بمدينة إب، وسط اليمن، حيث تتراكم أكوام الملابس المستعملة، تقف “أم مروة” (38 عامًا)، كشاهد حي على الأزمة الاقتصادية والإنسانية المستمرة. تُقلب بيديها قطع الملابس واحدة تلو الأخرى، توازن بين أسعارها الزهيدة وحاجة أطفالها الخمسة إلى ما يدفئ أجسادهم النحيلة في ليالي الشتاء القاسية.
أم مروة، معلمة بإحدى المدارس الأهلية راتبها لا يتجاوز 60 ألف ريال (107 دولار أمريكي) ويذهب ثلثاه تقريبًا لإيجار شقتها البالغ 40 ألف ريال. رحلة تسوقها هذه ليست عادية، بل هي جولة صراع مرير بين واقع الحاجة الملحة ومخاوف صحية تلاحقها كل لحظة.
"أم مروة" تدرك أن الملابس المستعملة تحمل مخاطر الإصابة بأمراض جلدية ومُعدية، لكنها خيارها الوحيد أمام البرد الذي يهدد أطفالها
في حديثها لـ“برَّان برس” وبلغة مليئة بالحسرة والألم قالت أم مروة: “يا ليت الأمر بيدي.. لو كان لدينا ما يكفي من المال، لكنت اشتريت لأطفالي ملابس جديدة تليق بهم، لكن الحرب قضت على كل شيء”.
وأضافت مشيرة بيدها إلى البسطات والفراشين: “انظر كلها أكوام من الملابس التي يلبسها غيرنا، ورغم ذلك، نبحث فيها عن قطعة سليمة صالحة لتدفئة طفل في هذا الشتاء القارس. الأسعار ارتفعت بشكل جنوني، وما نملكه بالكاد يكفي للطعام. أخشى أن يمرض أطفالي من البرد، لذلك أبحث عن أي شيء يمكن أن يحميهم”.
تدرك أم مروة، أن هذه الملابس تحمل مخاطر الإصابة بأمراض جلدية ومُعدية، لكن البرد الذي يهدد أطفالها أقوى من أي خوف آخر، وهو واقع يفرض عليها الاختيار بين مواجهة البرد القارس أو المخاطر الصحية.
في ظل الأزمة الاقتصادي والإنسانية التي تعيشها البلاد، يواجه ملايين السكان تحديات قاسية تهدد أبسط مقومات حياتهم. ومع حلول فصل الشتاء القارس، تتفاقم هذه المعاناة، ويُصبح تأمين الدفء من أولويات البقاء، لا سيما للأسر الأكثر ضعفًا من المعوزين والفقراء.
خيار إجباري
مع حلول الشتاء، انتعشت أسواق الملابس المستعملة، المعروفة محليًا بـ“الحراج”، وباتت خيار إجباري وملاذ للعديد من اليمنيين الذين يعجزون عن اقتناء ملابس جديدة بسبب الارتفاع الجنوني لأسعارها.
توضح قصص العديد من العائلات أن اللجوء إلى الملابس المستعملة لا يمثل خيار اقتصادي فحسب، بل هو انعكاس لمعضلة حقيقية تتأرجح فيها الأسر بين الحاجة الماسة للدفء والخطر الصحي الكامن وراء هذه الملابس.
“أم راكان” (42 عاماً)، هي الأخرى تبحث وسط ركام الملابس المستعملة، لعلها تجد السترات والمعاطف الثقيلة، لتقيها وأولادها برد الشتاء، رغم إدراكها للمخاطر الصحية.
تتألم "أم راكان" وهي تشتري الملابس المستعملة رغم مخاطرها، لكن ابتسامة أطفالها عندما يجدون شيئاً جديداً بالنسبة لهم، يُهوّن ألمها
قالت لـ“بران برس”: لا يهم جودة ونظافة الملابس حتى لو كانت ممزقة قليلاً، سأقوم بخياطتها بنفسي، المهم أن أرى أولادي دافئين، وألا أرى البرد في عيونهم”.
وأكدت أن “هذا ليس خياراً، بل هو آخر ما تبقى لنا من خيارات، صحيح أن القلب يتألم، لكني أرى ابتسامة أطفالي عندما يجدون شيئاً جديداً بالنسبة لهم، وهذا يُهوّن عليّ كل شيء”.
أم مروة وأم راكان، مثالاً للأسر اليمنية التي دفعت بها الأوضاع الاقتصادية المتدهورة إلى التخلي عن فكرة شراء الملابس الجديدة، وأمسى خيارها الوحيد هو هذه الأسواق المليئة بالقصص المجهولة، حيث تتكدس ملابس من مصادر غير معروفة، والتي قد تكون محملة بالجراثيم والبكتيريا التي تتربص بصحة أطفالها.
رواج واسع ومصادر مجهولة
التاجر وهيب الوصابي، يعمل في بيع ملابس الحراج بمدينة إب منذ قرابة 20 عامًا، أكد أن تجارة الملابس المستعملة خلال السنوات الأخيرة لقيت رواجاً واسعاً خلافاً للملابس الجديدة التي قال إن الإقبال عليها تراجع بسبب غلاء أسعارها وعجز المواطنين عن شرائها؛ نتيجة للأوضاع المعيشية السيئة.
وبشأن مواصفات تلك الملابس وطرق استيرادها ومدى نظافتها، قال الوصابي لـ“بران برس”: “نستورد هذه الملابس من صنعاء “سكر بين ماء”، حد قوله.
تجارة الملابس المستعملة لاقت خلال السنوات الأخيرة رواجاً واسعاً خلافاً للملابس الجديدة التي تراجع الإقبال عليها بسبب غلاء أسعارها وعجز المواطنين عن شرائها
وأضاف: “نشتري الملابس المستعملة بما يسموه (كورجة) أو بُنده مخاشفة لا ندري ما بداخلها بسعر معين، وكل واحد هو وحظه”. موضحًا أن “الكورجة تحتوي على عشرات القطع، فيها الصالح والطالح، فبعضها نظيفة وشبه جديدة والبعض الآخر متسخة وشبه تالفة”.
وعن مدى نسبة أمان تلك الملابس وهل خضعت للغسيل والتعقيم أم لا، قال الوصابي: “لا ندري مصدر الاستيراد، وكما نشتريها من صنعاء نأتي ونفترشها مباشرة كما جاءت، بعد فرزها حسب النوع والفئات العمرية”.
ضعف القدرة الشرائية
الباحث الاقتصادي، وفيق صالح، عزا لجوء كثير من الأسر إلى الملابس المستعملة خلال السنوات الأخيرة خاصة مناطق سيطرة الحوثيين إلى “ضعف القوة الشرائية لدى اليمنيين”.
وقال لـ“برَّان برس” إن هذا “مؤشر على عمق الأزمة الإنسانية وتدني القدرة الشرائية لغالبية السكان جراء توقف صرف رواتب الموظفين، وانعدام فرص الكسب، ويعكس تحولاً جذرياً في سلوك الاستهلاك، نحو اقتصاد البقاء”.
وأضاف أن “تفشي رقعة الجوع وارتفاع نسبة الفقر لأكثر من 80 % وتضاعف عدد السكان المحتاجين للمساعدات الإنسانية العاجلة أبرز العوامل التي أدت إلى انتشار أسواق الحراج للملابس، مضيفًا أن “غالبية الأسر باتت غير قادرة على توفير احتياجات أفرادها من الملابس الجديدة، ما يجعل الملابس المستعملة خيارها الأكثر قسوة”.
وفيق صالح: لجوء كثير من الأسر إلى الملابس المستعملة خلال السنوات الأخيرة خاصة مناطق سيطرة الحوثيين سببه ضعف القوة الشرائية لدى اليمنيين
وأشار صالح، إلى أن سوق الحراج سيتوسع ما دامت الأوضاع الحالية قائمة، بل سيتضخم أكثر كل عام مع توقف الرواتب وتراجع المساعدات وارتفاع تكاليف الشحن.
ومع استمرار الحرب قال: “ستكون الآثار والتداعيات الإنسانية والاقتصادية على أوضاع السكان عميقة ومؤلمة، خصوصًا مع انفراد الحوثيين بالسكان وممارسة أشكال الانتهاكات وسياسات الإفقار التي دفعت نحو 80% من السكان إلى براثن الجوع والفقر والبطالة”.
مخاطر صحية
بدوره، حذر أخصائي الجلد الدكتور عبدالرحيم السامعي، من مخاطر الملابس المستعملة وما تحمله من طفيليات وبكتيريا وفطريات وبعض الفيروسات، مؤكدًا أنها تسبب بأمراض جلدية معدية وخطيرة.
وأضاف السامعي، وهو رئيس هيئة مستشفى الثورة العام بتعز وعضو رابطة أطباء الجلد العرب، أن “هذه الملابس التي تأتي من مصادر مجهولة، وتُعرض في ظروف غير صحية قد تكون بيئة خصبة للجراثيم والبكتيريا والفطريات، مما يهدد صحة مرتديه بأمراض جلدية خطيرة”.
وأكد أن هناك الكثير من الأمراض الجلدية التي تنتقل عبر الملابس المستعملة، خاصة إذا كانت مخزنة في أماكن رطبة ومنقولة بطريقة مغلفة رطبة تحتوي على بخار ماء. مضيفًا أن البيئة الرطبة تحافظ على كافة الطفيليات، سواء كانت طفيليات فطرية أو بكتيرية أو من الأمراض المنقولة حشرياً مثل الجرب، والقمل (قمل الجسم وقمل الرأس).
أمراض جلدية
استعرض الدكتور السامعي، العديد من الأمراض المشهورة التي تنتقل عبر الملابس المستخدمة غير النظيفة وغير المعقمة، وهي الفطريات، والبكتيريا والجرب وبعض الفيروسات. موضحًا أن أكثر الأمراض الفطرية التي تنتقل عبر هذه الملابس "التينيا" وهي سعفة الجلد أو القوبة الحلقية التي تنتشر في الجسم على شكل حلقي.
بالإضافة إلى الكثير من الأمراض الجلدية مثل فطر القدم وفطريات الفخذ والأماكن الرطبة مثل الإبطين والأماكن الحساسة، وكذا “الجرب” الذي يعتبر من العثة الصغيرة ويعيش لفترة قصيرة خارج الجسم من 24 إلى 48 ساعة. وإذا توفرت ظروف طبيعية مثل المواد الزهمية أو العَرق المفروز داخل هذه الأقمشة، خاصة الأقمشة المغلفة من الخارج بالبولستر والنايلون فتمنع التعرض للهواء، تعيش فترة أطول وتنتقل للجسم بسهولة.
الدكتور السامعي: أكثر الأمراض الفطرية التي تنتقل عبر هذه الملابس "التينيا" وهي سعفة الجلد أو القوبة الحلقية التي تنتشر في الجسم على شكل حلقي
ووفقًا للسامعي، فإن الفطريات تظل عايشة في الملابس من 24 ساعة إلى أسابيع، مشددًا على أنها “من أخطر الأمراض التي يمكن نقلها عن طريق الملابس المستعملة؛ لأنها تظل لفترة طويلة تزيد عن 4 أسابيع يمكن نقلها من دولة إلى أخرى في ظروف بيئية رطبة.
والنوع الثالث من الأمراض التي تُنقل عبر الملابس المستعملة: قمل الرأس والجسم، موضحًا أن قمل الجسم تعيش في الأماكن الملفوفة وفي الزوايا المطوية مثل الابطين وزوايا البنطلونات والقبعات والملابس الضيقة حول الرقبة وحول الفخذين.
وأما النوع الرابع من الأمراض فهي البكتيريا، وتعد، وفق السامعي، من أسهل الأمراض التي يمكن أن تنتقل وأسهلها وقاية، فغسل الملابس وتعريضها للهواء الجوي والشمس والبخار الحار يمكن أن يقي من هذه الأمراض.
طرق التنظيف
وفيما يتعلق بالطرق الصحيحة لتنظيف هذه الملابس، أوضح السامعي، “الملابس القطنية يمكن غسلها بالماء الساخن من 60 إلى 90 درجة مئوية، بينما الملابس الصوفية تغسل من أجل ألا تتلف بماء فاتر 30 درجة مئوية وتعرض بعد ذلك لضواء الشمس. والأقمشة الصناعية مثل البوليستر والنايلون تغسل من 30 إلى 40 درجة مئوية وتعقيمها وتجفيفها بالشمس أو المجفف الحراري.
للوقاية من الأمراض الجلدية ينصح بغسل الملابس المستعملة بالماء الساخن، واستخدام المعقمات مثل الديتول والخل وتجفيفها في الشمس لمدة لا تقل عن ساعتين
وأما الملابس الجلدية، فالكثير من الجاكتات تأتي من الداخل ملبسة بملاس جلدية بطريقة مسحها بقطعة قماش مبللة بسائل التنظيف المعقم بخل التفاح أو مطهر لطيف، وتعريضها للهواء والشمس.
وأكد أن الملابس الخطرة التي تنقل الطفليات هي البطانيات والملابس الداخلية والملابس الضيقة؛ لأنها تعيش في ثنايا تلك الملابس. مضيفًا أن الفيروسات من أقل الأمراض انتقالا عبر الملابس المستخدمة.
وللوقاية من انتقال الأمراض، حث أخصائي الجلد على غسل الملابس المستعملة بالماء الساخن، واستخدام المعقمات مثل الديتول والخل وتجفيف الملابس بحرارة وضوء الشمس لمدة لا تقل عن ساعتين، وأيضًا عزل الملابس غير المغسولة عن الملابس النظيفة.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news