حضرموت تكشف غياب القرار الوطني وتراجع مؤسسات الدولة
قبل 1 دقيقة
في لحظة فارقة من تاريخ اليمن الحديث، تبدو حضرموت اليوم مرآة عاكسة لواقع دولة تتآكل مؤسساتها، وتتراجع إرادتها الوطنية إلى حدّ الغياب الصادم. لم يعد المشهد مجرد مؤشرات ضعف أو بطء في اتخاذ القرار، بل انكشاف كامل لموقع القيادة، وغياب فاضح لصوت الدولة، بينما تتحكم أطراف من خارج المؤسسات الشرعية بكل ما يجري، في وقت تقف فيه الشرعية — مجلسًا وحكومة وبرلمانًا — موقف العاجز الصامت، وكأنها جهة خارجية لا علاقة لها بمصير بلادها.
وأمام هذا الواقع الذي يزداد قتامة، يتنامى شعور عام بالغضب والإحباط، مردّه إدراك اليمنيين أن ما تبقّى من سلطة رسمية لم يعد قادرًا على حماية السيادة، أو صياغة موقف وطني موحد، ولا حتى إدارة أبسط شؤون المواطنين اليومية. أصبح حضور الدولة أشبه بظلّ باهت لا يمتلك القدرة على الفعل أو حتى التفسير.
لقد تحولت حضرموت إلى نموذج مكثف لحالة الانهيار، بعدما أصبحت الترتيبات الأمنية والعسكرية فيها تُدار خارج الإطار الوطني عبر انسحابات وتبديل قوات واجتماعات متلاحقة يقودها الأشقاء. وبينما تُعقد الجلسات وتُتخذ القرارات، تغيب المؤسسات الشرعية عن المشهد؛ لا صوت ولا مشاركة ولا حتى بيان رسمي يُقنع المواطن بأن الدولة ما تزال موجودة في معادلة القرار.
وفي الوقت الذي كان يفترض أن تكون فيه السلطة الشرعية في مقدمة من يدافع عن الأرض والإنسان، انصبّ تركيز الجهود الإقليمية والدولية على حماية آبار النفط والمنشآت الحيوية، بينما ظل المواطن — بآلامه ومعاناته المتفاقمة — خارج دائرة الاهتمام تمامًا. الأزمات تلاحقه من كل اتجاه: انهيار اقتصادي غير مسبوق، غلاء معيشي خانق، خدمات شبه معدومة، وانفلات أمني يتوسع يومًا بعد آخر، فضلًا عن تمزّق اجتماعي يتعمق بغياب الدولة التي كانت — ولو نظريًا — الضامن الأكبر لوحدة النسيج الوطني.
أما في المحافظات الأخرى، فتبدو الصورة أكثر قتامة. ففي مناطق سيطرة مليشيا الحوثي الإرهابية، يرزح ملايين اليمنيين تحت قبضة جماعة طائفية وسلالية لا تتورع عن القمع والتجويع وسلب الحقوق. هناك تُمارس سياسات إذلال ممنهجة، ويُحرم الناس من رواتبهم، وتُفرض الجبايات على تفاصيل حياتهم كافة. ومع ذلك، لم تتمكن الشرعية حتى اليوم من توفير حماية سياسية أو اقتصادية لهؤلاء المواطنين، ولا من صياغة رؤية حقيقية لإنقاذهم من هذا الواقع الأسود. تركتهم الدولة — أو ما تبقى منها — يواجهون مصيرهم تحت رحمة مليشيا لا تعرف القانون ولا تراعي كرامة الإنسان.
وبالعودة إلى حضرموت، تبرز ملامح أزمة أكثر عمقًا تتعلق بانعدام القرار الوطني وتراجع السيادة إلى مستوى خطير. استمرار الاجتماعات واللقاءات التي يقودها الجانب السعودي — بمعزل عن مشاركة فاعلة من مؤسسات الدولة — يشير بوضوح إلى أن الملف اليمني لم يعد يُدار من الداخل. ومع كل اتفاق يُوقَّع، ومع كل خطوة ميدانية تُنفذ، تتراجع مكانة المؤسسات الشرعية خطوة إضافية نحو الهامش. هذا التآكل المتسارع لم ينعكس فقط على المشهد السياسي، بل امتد ليضرب الثقة الشعبية التي تتآكل بدورها، إذ بات كثير من اليمنيين يرون أن الدولة تتنازل تدريجيًا عن حقها في اتخاذ القرار لصالح أطراف خارجية.
وليس الوضع الاقتصادي ببعيد عن هذا الانهيار الشامل. فالعملة الوطنية تقف على حافة تراجع جديد، والأسواق تشهد تقلبات يومية، ورواتب الموظفين تتأخر أو تتلاشى، فيما تكاد الخدمات الصحية والتعليمية تختفي. المواطن في المحافظات المحررة يواجه مستقبلًا أكثر غموضًا: ارتفاع في الأسعار، فساد إداري متفشٍّ، غياب للرقابة، وغياب كامل للبرلمان الذي يفترض أن يكون صوت الشعب وحارس مؤسساته.
وفي ظل هذا الواقع المرتبك، تتصاعد حالة التوتر المجتمعي، وتتسع الفجوات بين المكونات المحلية، بينما تتراجع القيم الجامعة التي لطالما ربطت اليمنيين. كل ذلك يحدث في لحظة تُفترض فيها أعلى درجات الوحدة واليقظة.
إن الأزمة التي تعيشها البلاد اليوم لم تعد أزمة حرب فقط، بل أزمة قيادة وقرار وسيادة. فالدولة التي لا تمتلك المبادرة، ولا تستطيع حماية قرارها السياسي المستقل، هي دولة مهددة بالتلاشي التدريجي. وما يحدث في حضرموت — من انسحابات وترتيبات أمنية ودبلوماسية تتم خارج الإطار الرسمي — يجب أن يكون جرس إنذار مدوّيًا لمجلس القيادة والحكومة والبرلمان. فالتاريخ لن يرحم، والمواطن لن ينتظر طويلًا، والفراغ الذي تتركه الدولة لن يبقى فارغًا؛ فهناك أطراف ومشاريع جاهزة لملئه، بعضها لا يحمل لليمن أي خير.
اليمنيون يريدون دولة تستعيد صوتها، وتنهض بمسؤولياتها، ولا تقف على الهامش. يريدون شرعية تتقدم الصفوف، لا تتوارى خلف الأطراف الأخرى. يريدون قيادة وطنية تضع الإنسان قبل النفط، والمصلحة العامة قبل الحسابات الضيقة. فالبلاد لن تُبنى بقرارات تُتخذ من خارجها، ولن تستقر إذا ظل المواطن آخر الاهتمامات.
فهل يلتقط مجلس القيادة الرئاسي المختلف اعضائة حتى في القضايا الوطنية ما يجري؟
وهل تستوعب الحكومة حجم الخطر؟
أم أن اليمن سيظل يتحرك بلا بوصلته الوطنية، تاركًا مصيره للرياح؟
هذا السؤال وحده يكشف عمق الأزمة، والإجابة عليه هي ما سيحدد مستقبل وطن يكاد يفقد صوته وقراره ووجوده.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news