تُظهر تحركات ميليشيا الحوثي خلال الأسابيع الأخيرة في الساحل الغربي لليمن أن الحركة دخلت مرحلة جديدة من إعادة التموضع البحري، بعيدًا عن الخط الساحلي المكشوف الذي شكّل خلال العام الماضي الهدف المفضل للضربات الأمريكية البريطانية.
وبينما انشغلت وسائل الإعلام بتغطية الغارات الجوية على مواقع الصواريخ والمسيرات قرب الحديدة والصليف واللّحية، كان الحوثيون يعيدون، بهدوء، هندسة بنيتهم العسكرية عبر شبكة داخلية متعددة الطبقات تمتد من عمق أرياف الحديدة حتى سواحل البحر الأحمر.
مصادر سياسية وأمنية يمنية تحدثت إلى "إرم نيوز" قالت إن الميليشيا الحوثية "استفادت من عام كامل من الضربات الغربية لتطوير نموذج جديد للانتشار البحري"، يقوم على تحويل الساحل من منطقة تمركز إلى منطقة إطلاق فقط، ونقل كل البنية التحتية الحيوية إلى الداخل، بما في ذلك المخازن ومراكز القيادة والاتصالات. وتصف المصادر هذا التحول بأنه "الأكبر منذ عام 2018"، عندما فرض اتفاق ستوكهولم توقف خطوط التماس التقليدية في الحديدة.
ممرات داخلية بديلة
أولى خطوات إعادة التموضع تمثلت في فتح طرق إمداد جديدة شرق مدينة الحديدة باتجاه مناطق يتحكم بها "الأمن الوقائي"، بدلًا من الاعتماد على الطرق الساحلية المعتادة التي باتت مكشوفة تمامًا للمراقبة الجوية الأمريكية والبريطانية.
مصادر إعلامية محلية أكدت لـ"إرم نيوز" رصد "حركة ليلية واسعة للشاحنات العسكرية" خلال الشهرين الأخيرين في محيط مديريات الزيدية والقناوص وباجل، وهي مناطق لم تكن جزءًا من الحركة العسكرية الحوثية الكثيفة قبل عام.
وبحسب هذه المصادر، فقد جرى تفكيك عدد من مخازن المسيرات والصواريخ قرب ساحل الحديدة، ونقل محتوياتها إلى مواقع داخلية تبعد بنحو 20 إلى 40 كيلومترًا عن الشريط الساحلي. ويهدف هذا الانتقال إلى تقليل الخسائر المحتملة من الضربات الجوية، وخلق شبكة بديلة يمكن إعادة تشغيلها خلال ساعات في حال تعرضت أي نقطة لضربة.
تقرير استخباري أوروبي يؤكد هذا الاتجاه، مشيرًا إلى أن الحوثيين "لم يعودوا يتعاملون مع الساحل بوصفه منطقة لوجستية ثابتة، بل منطقة إطلاق مؤقتة تُستخدم عند الحاجة فقط، بينما تُدار العمليات الفعلية من مواقع داخلية محصنة".
اللُّحية.. عقدة عسكرية جديدة
التحول الأكثر إثارة للانتباه يقع شمال الحديدة، في منطقة اللُّحية التي تحولت خلال أسابيع قليلة إلى ما يشبه "غرفة عمليات بحرية متقدمة". مصادر أمنية يمنية، تتابع الملف، أكدت أن اللُّحية تشهد منذ نوفمبر/ تشرين الثاني "نشاطًا هندسيًا غير معهود"، يشمل حفر خنادق، وإنشاء منصات إسمنتية، ومد كابلات يرجح أنها جزء من منظومة مراقبة ساحلية بدائية مرتبطة بوحدات استطلاع في المدينة.
وبحسب المعلومات التي وصلت إلى "إرم نيوز"، فإن الحوثيين يعملون على تجهيز نقاط إطلاق للصواريخ قصيرة المدى داخل أحياء سكنية في اللُّحية، ما يصعّب على الطيران الأمريكي–البريطاني استهدافها دون وقوع خسائر مدنية كبيرة. ويشير أحد المصادر إلى أن هذا النموذج "مستوحى من تكتيكات حزب الله في جنوب لبنان"، حيث تُستخدم المناطق المدنية كغطاء للمنصات المتحركة.
وتُظهر الصور الميدانية التي وصلت من المنطقة خلال الأيام الماضية زيادة واضحة في حركة الشاحنات الصغيرة التي تدخل وتخرج من مناطق قريبة من الساحل، إضافة إلى رصد سفن صيد تحمل تجهيزات غير مألوفة يُرجح أنها معدات اتصالات أو استطلاع.
شبكة بحرية متعددة النقاط
التغيير الأعمق في بنية الميليشيا البحرية يتمثل في توسيع "قوة البحر الأحمر" إلى شبكة لامركزية تعمل من مواقع متباعدة داخل الساحل وعمقه الخلفي. فبدلًا من الاعتماد على وحدات ساحلية ثابتة، أنشأ الحوثيون - وفق المصادر الأمنية - سرايا صغيرة متحركة قادرة على إطلاق المسيرات والصواريخ من شاحنات مجهزة، ثم الاختفاء خلال دقائق في القرى الريفية أو بين المزارع.
المصادر قالت إن هذا الأسلوب يجعل من الصعب على الطيران البريطاني والأمريكي "تحديد أي نقطة حاسمة"، لأن البنية العسكرية لم تعد مركزية كما كانت قبل عام. وتشير هذه المصادر إلى أن الحوثيين باتوا يعتمدون على وحدات استخبارات بحرية ميدانية مهمتها جمع المعلومات من الصيادين المحليين ومراقبة حركة السفن التجارية، وربطها مباشرة بغرف عمليات في صنعاء والحديدة.
هذه اللامركزية تمنح الحوثيين قدرة أكبر على الصمود أمام الضربات الجوية، وتقلل من المخاطر التي تواجه منصات الإطلاق، التي كانت تُستهدف باستمرار منذ بداية حملة واشنطن ولندن البحرية.
مخازن متحركة
مصدر يمني مطلع كشف لـ"إرم نيوز" أن الحوثيين قلّصوا بشكل ملحوظ استخدام ميناء الحديدة كمركز لتخزين السلاح بعد أن أصبح تحت مراقبة مستمرة من الطائرات والسفن الأمريكية. وبدلًا من ذلك، جرى تفعيل موانئ صغيرة وشعبية مثل الصليف واللُّحية، التي تفتقر إلى البنية التحتية الرسمية اللازمة للمراقبة الدقيقة، ما يجعل عمليات الرصد أكثر صعوبة.
وبحسب المصدر نفسه، فإن الحوثيين أدخلوا خلال الأشهر الأخيرة نظام "المخازن المتحركة"، وهي شاحنات مبردة تُستخدم لتخزين أجزاء من المسيرات وقطع الصواريخ، ويتم نقلها ليلًا بين مواقع متعددة لتفادي الاستهداف. وتسمح هذه الطريقة للميليشيا بالحفاظ على جاهزيتها العملياتية دون الكشف عن مواقع ثابتة يسهل تتبعها.
إسناد إيراني بطريقة غير تقليدية
تؤكد تقارير صادرة عن مراكز دراسات غربية تتابع الملف اليمني، أن الدعم الإيراني للحوثيين لم يتوقف، لكنه أصبح يتم عبر ما تسميه "قنوات الربط غير المباشر"، بما في ذلك الساحل الإريتري الذي يُستخدم - وفق هذه المعلومات - لتمرير قطع فنية خاصة بالطائرات المسيرة وأنظمة الاتصالات.
كما تحدثت التقارير عن استخدام سفن صيد إيرانية لتقديم دعم تقني في مناطق شمال البحر الأحمر، حيث تُستخدم كسفن استطلاع مدني لتفادي الرصد المباشر. هذه المعلومات، وإن لم تؤكدها العواصم الغربية بشكل رسمي، لكنها تحضر في أغلب تقييمات الاستخبارات البحرية الأوروبية.
استعداد لسيناريو "الإنزال البحري"
بالتزامن؛ تتزايد المؤشرات على أن الحوثيين بدؤوا تدريب وحدات خاصة داخل مزارع خاصة شرق الحديدة على تكتيكات مواجهة الإنزال البحري، بما في ذلك استخدام المسيرات الانتحارية المحمولة على عربات خفيفة، ونشر ألغام بحرية بدائية، وإعداد نقاط قنص على أسطح المباني الساحلية.
وتشير معلومات "إرم نيوز" إلى أن هذه التدريبات تتم بإشراف ضباط من "الأمن الوقائي"، ما يعني أن ملف البحر الأحمر بات مدرجًا ضمن الملفات الأمنية الحسّاسة التي تُدار من أعلى هرم الجماعة.
سباق مع الوقت
تخلص المصادر الأمنية اليمنية بأن الحوثيين يخوضون الآن "سباقًا مع الزمن" لإكمال شبكة التموضع الجديدة قبل أن تتوصل الولايات المتحدة وبريطانيا إلى "تكتيك استهداف" قادر على تعطيل المنظومة اللامركزية التي تعمل ميليشيا الحوثي على إرسائها. وحتى يحدث ذلك، تبدو الميليشيا مطمئنة إلى أن بنيتها الجديدة أكثر مرونة وقدرة على امتصاص الضربات، وأكثر قدرة على تهديد الملاحة في البحر الأحمر وقت الحاجة.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news