تجنبًا للخوض مع الخائضين كما ورد في الآية، وبعيدًا عن محاولات التنظير والتذاكي التي لم تُثمر شيئًا طوال سنوات الحرب، لم يعد تحليل المشهد اليمني بحاجة إلى “اجتهادات” جديدة… فالصورة باتت فاقعة إلى حد يتهكم على أي محاولة للفهم أصلًا.
المأساة اليمنية اليوم لا تكمن في دوامة الصراع وحدها، ولا في شبق السلطة ورغبتها العمياء، بل في هذا المستوى غير المسبوق من الانحراف السياسي الذي تمارسه الأطراف المتدثرة بشعارات الوطنية. لقد أنتجت هذه النخب واقعًا كارثيًا من العمل العام… سلطة بلا مسؤولية… قرار بلا رؤية… وولاءات تتلون كالحرباء. ويمكن القول إن “إنجازها” الوحيد هو تحويل الدولة إلى ساحة عبث متواصل، وإفراغ السياسة من أي معنى أخلاقي أو وطني.
مشكلتنا الحقيقية في اليمن — والتي يتواطأ كثيرون على تجاهلها — تكمن في غياب “الخيار الوطني” كأفق جامع وقوة قادرة على الفعل. هذا الغياب هو أصل الكارثة التي تغذي دوامة الهدر وتدفع بالبلد نحو مآلات مجهولة ومصير بالغ العتمة. فما معنى الحرب بلا مشروع، وما معنى السلام بلا رؤية؟ لا فارق حقيقي بين الاثنين… كما لا معنى للوحدة أو الانفصال… فكلاهما في غياب المشروع الوطني طريق واحد إلى الهاوية.
والحاصل أن انعدام المشروع الوطني ليس خطأً عابرًا، بل كارثة توازي كارثة الحرب وربما تفوقها خطرًا… فالحرب — مهما طالت — ستنتهي، أما غياب المشروع فيترك المجتمع مكسورًا… ضائعًا… فاقدًا للبوصلة وسط جغرافيا ممزقة ونخب عاجزة حتى عن الاتفاق على تعريف “الوطن”.
والمفارقة أن هذا البلد الذي تفاخر يومًا بأنه احتضن أكبر طاولة حوار “وطني” في العالم، يعجز اليوم عن إدارة نقاش جاد حول أولوياته الأساسية. وكأن تلك الطاولة العملاقة لم تكن سوى مشهد من مسرحية عبثية تليق بزمن الخديعة، لا بمحاولة بحث صادقة عن مستقبل مشترك.
هكذا أصبحت اليمن — وبلا مبالغة — موطنًا لتناقضات تفوق الخيال… بلد يمتلك كل مقومات النهوض، لكنه محاصر بنخب بلا مشروع… وجهات بلا بوصلة… وواقع يكشف مفارقة مرعبة نعيشها يوميًا… بلا أسف… بلا دموع… بلا دهشة وبلا أدنى محاولة للنجاة.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news