تقارير خاصة
كتب/د. الخضر عبدالله:
في قلب مدينة الشيخ عثمان، حيث تتقاطع الأزقة المكتظّة بالباعة والمتسوقين وتختلط الروائح الشعبية بصخب الحياة اليومية، لفت نظري رجل يدفع أمامه عربة صغيرة تتراص فوقها أكياس “الكرابيش” الشهية. كان المشهد عادياً للمارّة، لكنه حمل في داخله حكاية مختلفة لرجل تجاوز الخمسين وما يزال يواجه الحياة بابتسامة صادقـة وإصرار لافت. توقّفت أمامه، سلّمت عليه، وطلبت منه أن يحدّثني عن قصته. كان اسمه فقال: أسمي جميل أحمد قاسم.
جميل، الرجل الخمسيني الذي أنهكته الحياة دون أن تُنهي عزيمته، يعمل في بيع الكرابيش منذ العام 2006. أي أنه قضى ما يقارب العشرين عاماً يدفع هذه العربة يومياً، تحت الشمس الحارقة أحياناً، وتحت المطر أحياناً أخرى. حين تسأله عن عمره يجيب ببساطة: “خمسون عاماً”، لكن وجهه الذي لفحته الشمس وخطته التجارب يوحي بسنوات أطول من ذلك. خلف تلك التجاعيد تتوارى مسؤوليات كبيرة؛ فهو أب لتسعة أطفال: سبعة ذكور وفتاتان. يقولها بصوت لا يخلو من الفخر، لكنه أيضاً محمّل بقلق لا يفارقه.
يُحضّر جميل الكرابيش بنفسه. يبدأ نهاره من الفجر تقريباً، حين يكون الكثيرون ما يزالون نياماً. يوقظ النار تحت القدر، ويبدأ في خلط المكوّنات بحرفية اكتسبها عبر سنوات طويلة. لكنه يخبرني أن هذه الحرفة ليست ناصعة كما تبدو، فخلف كل كيس كرابيش يتلذذ به المشترون يوجد جهد كبير قد لا يراه أحد. يقول وهو يرفع يده التي تعلوها آثار الحروق القديمة: “أحياناً تحترق يدي وأنا أطهوها… لكن الحمدلله”. يقولها كما لو أنه يهوّن من الألم، أو ربما لأنه اعتاد أن يخفيه.
ورغم كل الجهد والتعب، فإن دخله غير ثابت. يبتسم باستحياء ويقول: “يوم أربح ويوم أخسر… الحمد لله على كل حال”. كلماته تحمل قدراً كبيراً من الرضا، لكنها لا تخفي حقيقة أنه يعيش حياة شديدة التقلب. يومٌ جيّد قد يضمن له طعاماً إضافياً لأطفاله، ويوم سيئ قد يعني أن عليهم الانتظار حتى يتحسن الحال. ومع ذلك، لا يسمع منه شكوى مباشرة… فقط إيمان عميق بأن الرزق بيد الله.
حين تحادثه أكثر تشعر أن الرجل لم يختر هذه المهنة لأنها حلمه، بل لأنها كانت الخيار الوحيد المتاح أمامه. لم يحصل على فرصة عمل حكومية، ولم يملك رأس مال لمشروع أكبر، فوجد في هذه العربة الصغيرة بصيص أمل يقيه الحاجة ويمكّنه من إعالة أسرته. لكن مع مرور السنوات، أصبحت العربة قديمة، والإرهاق يزداد، بينما المصاريف تكبر مع نموّ الأطفال واحتياجاتهم.
يقول جميل: “راحت الأيام وأنا أدفع هذه العربة… كل ما أريده هو تحسين مشروعي، أريد عربة أفضل، معدات أفضل، حتى أقدر أشتغل بدون ما اتأذى، وأضمن لقمة عيش لأولادي”.
كانت أمنياته بسيطة، لكنه يرددها وكأنها حلم بعيد المنال. ما يطلبه ليس رفاهية ولا مشروعاً ضخماً، فقط مساحة صغيرة ليكبر حلمه المتواضع. يريد أن يشتري أوعية جديدة للطهو، وأن يطور من شكل عربته، وأن يتمكن من زيادة كمية الإنتاج حتى يصبح دخله أكثر استقراراً.
وأثناء حديثه، كان المارّة يقتربون منه بين الحين والآخر يسألونه عن السعر، فيرد عليهم بابتسامة لا تفارق وجهه. يحرص أن تكون كلماته لطيفة، وصوته هادئاً. ربما لأنه يعرف أن اللطف هو رأس ماله الأول قبل الكرابيش نفسها. فزبائنه ليسوا مجرد مشترين عابرين، بل علاقة طويلة مع سكان الحي الذين يعرفون جميل منذ سنوات.
سألته عن أكثر اللحظات التي أثرت فيه خلال مسيرته، فتنهّد وقال: “أصعب الأيام هي اللي أحس إني رجعت البيت وما قدرت أوفر شيء لأطفالي… لكن لما أشوفهم يضحكوا أنسى كل شيء”.
بين كلماته تشعر أنك أمام رجلٍ يحارب بصمت، لكنه لا يتوقف. يحمل همومه وحده، لكنه لا يتذمّر. يبتسم رغم قسوة الظروف، ويشكر الله رغم ضيق الحال. ليس لأنه لا يستحق الأفضل، بل لأن قلبه عامر بالقناعة. ومع ذلك، لا يخفي حاجته للمساعدة.
قبل أن أغادره، وقفت أتأمل عربته المتواضعة قليلاً. حديد قديم، حواف متآكلة، وعجلات تحتاج إلى تبديل عاجل. ومع ذلك، تبدو كأنها رفيق عمره. تمنيت لو أن هذه العربة تستطيع الكلام لتحكي كم شهدت من تعب، وكم جالت في الشوارع، وكم حملت من أحلام رجل يقاوم الفقر بشرف.
جميل لا يطلب الكثير… فقط أن يجد من يدعمه ليطوّر مشروعه الصغير. وربما لو وجد من يساعده، يستطيع أن يحول مهنته التقليدية إلى مصدر رزق مستقر، وربما يخلق فرص عمل بسيطة لأحد أبنائه أيضاً. فالرجل لا يبحث عن صدقة، بل يبحث عن فرصة.
قصته تختصر حياة شريحة كبيرة من الناس الذين يمرّون بقربنا كل يوم دون أن نلتفت لحكاياتهم. أشخاص بسيطون، يكافحون من أجل حياة كريمة، ويمضون في طريقهم بصمت. جميل واحد منهم… نموذج لرجل فقير في الإمكانيات، غني في الروح.
وحين تختتم حديثك معه، يغادرك وهو يدفع عربته من جديد، كأنه لم يتوقف للحظة. يعود إلى جولته اليومية، يلوح بيده للزبائن، مبتسماً كما لو أن العالم لا يثقل كاهله. ربما لأن الأمل عنده ليس مجرد كلمة، بل ضرورة يعيش بها كل يوم.
إنها قصة جميل… بائع الكرابيش الذي لم يتخلَّ يوماً عن كرامته ولا عن حلمه الصغير. رجل يستحق أن يُسلَّط الضوء عليه، وأن يجد من يمد له يد العون ليواصل حياته بكرامة، ويُطعم أفواهاً صغيرة تنتظر عودته كل مساء.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news