خطاب أحمد علي عبدالله صالح: رسائل سياسية محورية تحدد ملامح مرحلة جديدة في اليمن
قبل 1 دقيقة
تأتي كلمة نائب رئيس المؤتمر الشعبي العام السفير أحمد علي عبدالله صالح في الذكرى الثامنة لثورة الثاني من ديسمبر، والمتزامنة مع ذكرى الثلاثين من نوفمبر، كخطاب محمّل برسائل سياسية ووطنية وفكرية تتجاوز حدود الاحتفاء بالمناسبة إلى مستوى أعمق من القراءة في الواقع اليمني الراهن، وفي موقع المؤتمر الشعبي العام ضمن لحظة تاريخية شديدة التعقيد.
وعلى الرغم من أن خطاب السفير أحمد علي جاء في إطار المناسبة الرسمية، فإن لغته وما حمله من رموز ودلالات جعلت منه حدثا سياسيا قائما بذاته. لقد مثّل هذا الظهور عودة واضحة لصوته، لا بوصفه شخصية حزبية فحسب، بل كأحد الرموز البارزة لمرحلة مفصلية في تاريخ اليمن الحديث.
ارتكزت الكلمة على إعادة تأكيد المعاني الرمزية المرتبطة بثورة الثاني من ديسمبر، والتي قدّمها السفير باعتبارها لحظة مقاومة جمهورية خالصة في وجه تغوّل القوة الانقلابية. ووُظِّفت المناسبة بطريقة تدمج بين بعدها الحدثي وبين التأويل السياسي المتصل بالحاضر، وهو ما جعل الخطاب أقرب إلى عملية استحضار واعٍ لذاكرة متراكمة يراها المؤتمر الشعبي العام جزءاً من شرعية وجوده ودوره. وقد اتسم الخطاب بإصرار واضح على تثبيت فكرة أن الثاني من ديسمبر لم يكن حدثاً عابراً، بل علامة فارقة في مسار الصراع من أجل الدولة والجمهورية والهوية اليمنية الجامعة، وهو ما يعكس رغبة في إبقاء تلك اللحظة حاضرة في الوعي العام لا بوصفها ذكرى، بل باعتبارها نقطة انطلاق لمشروع سياسي مستمر.
وفي سياق استحضار تلك اللحظة، أخذ الحديث عن الرئيس السابق علي عبدالله صالح والأمين العام عارف الزوكا مكانة لائقة، ليس من باب التمجيد الشخصي، بل من باب تثبيت رواية المؤتمر عن تلك الأحداث. فقد جرى تقديم الرجلين بوصفهما رمزين لمعركة الدفاع عن الجمهورية في وجه جماعة مسلحة حاولت السيطرة على الدولة وتغيير هويتها السياسية والثقافية. هذا التقديم لم يكن مجرد إحياء لذكرى رحيلهما، بل محاولة لإعادة صوغ رمزيتهما ضمن سياق سياسي متقدّم، يمنح المؤتمر وجمهوره مساحة للتحرك ضمن رواية متماسكة حول الماضي القريب. إنها محاولة واعية لترميم الذاكرة الجمعية في مرحلة تشتد فيها الحاجة إلى ثوابت سياسية يمكن الاستناد إليها في خطاب جامع أو شبه جامع.
في المقابل، حرص الخطاب على الانتقال من إحياء الذكرى إلى ما يمكن اعتباره دعوة لإعادة بناء الوعي الوطني على أسس جديدة. فتجاوز مرحلة استدعاء التاريخ إلى مرحلة الحديث عن المستقبل، عبر التأكيد على أنّ الدروس المستخلصة من تلك الأحداث ينبغي ألا تظلّ حبيسة الاحتفالات السنوية، بل تتحول إلى مسؤولية عملية على الأرض. ومن هنا جاءت الدعوة إلى وحدة الصف الوطني كجوهر الرسالة السياسية في الخطاب. وقد صيغت هذه الدعوة بصيغة بعيدة عن التحزّب، وبنبرة محمّلة بما يمكن وصفه بالسعي لإعادة صياغة العلاقة بين القوى السياسية المتنافرة، لمواجهة ميليشيا الكهنوت الني لا تؤمن بالديمقراطية ولا بحقوق الإنسان ولا بوجود الدولة ككيان جامع.
تبرز أهمية هذه الدعوة في ضوء المشهد اليمني الراهن، حيث تتعدد الجبهات وتتباين المصالح وتتعمق الانقسامات السياسية والعسكرية والمناطقية.
من اللافت أنّ الخطاب لم يوجّه الدعوة إلى أطراف سياسية بعينها، بل تحدث بصيغة شمولية تشمل القوى السياسية والاجتماعية كافة، ما يوحي بوجود رغبة في تجاوز الاصطفافات التقليدية، أو على الأقل إعادة ترتيبها على نحو يخدم فكرة اصطفاف أوسع لمواجهة التحديات.
وفي موازاة هذه الدعوة التصالحية، حمل الخطاب تشخيصاً مباشراً للواقع الذي تفرضه مليشيا الحوثي في المناطق الخاضعة لسيطرتها. وقد جاء هذا التشخيص ضمن حدود الخطاب السياسي، من دون الانزلاق إلى لغة تحريضية. لكنه قدّم وصفاً لطبيعة السلطة القائمة في تلك المناطق، عبر التركيز على القمع والاختطافات ومصادرة الممتلكات ومحاولة فرض ثقافة دخيلة على المجتمع اليمني.
هذا الخطاب جاء كجزء من بنية خطابية تهدف إلى التاكيد على اهمية الاصطفاف الوطني، ليس باعتباره خياراً حزبياً أو سياسياً، بل باعتباره مسؤولية تاريخية تجاه الوطن والأجيال المقبلة.
ومن زاوية أخرى، تضمن الخطاب بعداً فكرياً واضحاً، إذ لم يقتصر على الطابع السياسي المباشر، بل تجاوز ذلك إلى التأكيد على القيم التي يرى المتحدث أنها تشكّل جوهر الهوية اليمنية، مثل الحرية والكرامة والتعايش والتمسك بالجمهورية. وأعاد التأكيد على أنّ للهوية اليمنية مضموناً ثقافياً وتاريخياً لا يمكن استبداله بثقافة مفروضة بالقوة. هذا الطرح يمنح الخطاب بعداً يتجاوز اللحظة السياسية نحو أفق أوسع يتعلق بالوعي الجمعي وبالتفسير الثقافي للصراع، وهو ما يعطي الخطاب تموضعاً مختلفاً عن الخطابات التقليدية التي تركز على الجانب العسكري أو السياسي وحده.
وفي الوقت نفسه، لا يمكن تجاهل أهمية التوقيت الذي أُلقي فيه الخطاب. فالواقع اليمني يعيش مرحلة حرجة تتداخل فيها العوامل العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتتراجع فيها مؤشرات الحل السياسي الشامل لصالح وضع مراوح في مكانه.
كما تأتي الكلمة في وقت يشهد فيه المؤتمر الشعبي العام نفسه انقسامات داخلية على مستويات عديدة، ما يجعل الخطاب أيضاً محاولة لإعادة لملمة صفوف الحزب وتأكيد حضوره ودوره في الساحة السياسية. كما يمكن قراءة الخطاب بوصفه رسالة أيضاً إلى الأطراف الإقليمية والدولية مفادها أن المؤتمر ما يزال قوة قادرة على مخاطبة الشارع، وأنه يمتلك رؤية أو خطاباً سياسياً يمكن أن يكون جزءاً من الحل أو من المشهد القادم.
غير أنّ اللافت في الخطاب أنه لم يتضمن أي مؤشرات مباشرة بشأن طموحات شخصية أو تحركات سياسية مستقبلية للسفير، الأمر الذي يجعله خطاباً محسوباً بدقة، يحافظ على مسافة مدروسة من التوقعات، ويترك الباب مفتوحاً من دون التزام علني. وهذا ما يمنح الخطاب طابعاً سياسياً متوازناً، لا يقفز فوق الواقع.
في المحصلة، قدّمت كلمة أحمد علي عبدالله صالح نصاً سياسياً مكثفاً يزاوج بين الذاكرة الوطنية والاستحقاقات السياسية الراهنة، ويقدّم تفسيراً للدور الذي يرى المؤتمر أنه يجب أن يلعبه في المرحلة المقبلة. إنها كلمة تسعى إلى ربط الماضي بالحاضر، وإعادة صياغة ملامح المشهد الجمهوري في زمن التشتت، وتوجيه رسالة إلى الداخل والخارج بأنّ اللحظة تتطلب تفكيراً جديداً وتحركاً مشتركاً. خطاب يجمع بين التحليل والتأكيد والتذكير والدعوة، ويبدو أقرب إلى وثيقة سياسية تتجاوز حدود المناسبة، وتفتح الباب أمام أسئلة جديدة حول المستقبل اليمني والدور المتوقع من القوى الوطنية في صياغته.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news