تحلّ ذكرى الثلاثين من نوفمبر ١٩٦٧م، اليوم الذي غادر فيه آخر جندي بريطاني أرض الجنوب العربي، بعد ثلاث سنوات من الكفاح المسلح الذي انطلق شرارته في الرابع عشر من أكتوبر ١٩٦٣م. يُعدّ هذا اليوم محطةً تاريخيةً فارقة تجسّد إرادة شعبٍ رفض الاستعمار، واحتضن المشروع الوطني التحرري حتى تحقيق الاستقلال الناجز. وفي ظل التحديات السياسية الراهنة، تبرز الحاجة لإعادة قراءة ذلك النضال واستلهام روحه في مسار تثبيت الهوية الوطنية للجنوب العربي.
انطلقت الثورة من جبال ردفان عام ١٩٦٣م حين أعلن الفدائيون بدء الكفاح المسلح ضد الوجود البريطاني الذي تجاوز ١٢٩ عامًا. وقد شكّلت عمليات الفدائيين منعطفًا حاسمًا في نقل المواجهة من حالة السخط الشعبي إلى ثورة منظمة تعتمد حرب الكر والفر وتستند إلى دعم جماهيري واسع.
كانت الجبهة القومية، وجبهة التحرير، وقوى المقاومة المحلية، من مشائخ، وسلطنات، وإمارات، ووحدات الفدائيين، حجر الزاوية في بناء العمل النضالي، حيث اتبعت تكتيكات دقيقة أربكت القوات البريطانية ودفعَتْها إلى إعادة تقييم خططها العسكرية. وبمرور الوقت توسّعت الثورة في مناطق عدن والجبال المحيطة بها، وتحوّل الجنوب العربي إلى ساحة مواجهة مفتوحة أرغمت بريطانيا على مراجعة حساباتها السياسية.
لم تكن السنوات الثلاث (١٩٦٣-١٩٦٧) مجرد سلسلة من المواجهات العسكرية، بل كانت معركة هوية ووجود. فقد قدّم شعب الجنوب العربي قوافل من الشهداء في سبيل الحرية، وأسهمت العمليات الفدائية النوعية في تقليص قدرة القوات البريطانية وإنهاكها، حتى أصبح استمرار وجودها مكلفًا وغير قابل للاستدامة سياسيًا أو ميدانيًا.
توجّ هذا المسار في ال ٣٠ من نوفمبر ١٩٦٧م، إذ غادرت آخر قوة بريطانية ميناء عدن، مُعلنة نهاية حقبة استعمارية طويلة وبداية عصر جديد.
ويُجمع العديد من المؤرخين على أنّ الشراسة النضالية، والحاضنة الشعبية كانتا العاملين الحاسمين في تسريع عملية الانسحاب.
إنّ نضالات شعب الجنوب العربي ليست فرعًا من رواية أخرى، ولا يمكن اختزالها ضمن سرديات سياسية عابرة. فهي تجربة تحرر مكتملة الأركان، عمّدتها التضحيات والوعي الوطني المبكر. ولذلك، فإن أي محاولة لتقزيم تلك التجربة أو نزع صفة الاستقلال عنها، تمثّل إخلالاً بالحقيقة التاريخية وإساءةً لدماء الشهداء الذين سقطوا في ردفان والضالع وعدن وغيرها من ساحات المواجهة.
وعلى الرغم من التنوع السياسي والاجتماعي، ظلّ الجنوب العربي متماسكًا حول هويةٍ وطنيةٍ واحدة تشكلت عبر عقود من التعايش والنضال ضد الاستعمار، وهو ما يجعل تلك الهوية أحد أهم المنجزات التاريخية التي يجب الحفاظ عليها.
تفرض التحولات الإقليمية والدولية الراهنة على القيادة الجنوبية ضرورة الانتقال من دائرة الخطاب إلى ميدان الفعل السياسي. فاستعادة الهوية الجنوبية ليست شعارًا، بل مشروعًا مؤسساتيًا يحتاج إلى خطوات واضحة، من بينها:
• بناء خطاب سياسي موحد يعكس الإجماع الجنوبي ويستند إلى الوثائق التاريخية والشرعية النضالية.
• تعزيز الحضور الدبلوماسي في المحافل الإقليمية والدولية، بما يرسّخ الاعتراف بالهوية والخصوصية الجنوبية.
• إعادة تفعيل المؤسسات البحثية والثقافية التي توثّق الذاكرة الوطنية وتواجه عمليات التزييف أو الطمس.
• إشراك القوى المجتمعية—من نخب أكاديمية وإعلامية وشبابية—في صياغة مستقبل الهوية السياسية للجنوب.
• وضع رؤية استراتيجية تنطلق من مبدأ الشراكة الوطنية والحفاظ على الأمن والاستقرار، مع احترام تاريخ الجنوب العربي وخصوصيته.
إنّ الاحتفاء بذكرى الاستقلال ال (٣٠) من نوفمبر ليس مجرد احتفال رمزي، بل هو تجديد للعهد تجاه قضية شعبٍ ناضل من أجل حريته، وما يزال يسعى لتثبيت هويته في عالم متغير.
تأتي الذكرى الثامنة والخمسون للثلاثين من نوفمبر لتذكّر بأن إرادة الشعوب قادرة على قلب المعادلات، مهما كانت موازين القوى. وأن الجنوب العربي، الذي قدّم نموذجًا أصيلًا في التحرر الوطني، قادر اليوم أيضًا على استعادة هويته ومكانته، متى ما توافرت الإرادة السياسية والرؤية الواضحة.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news