التعبئة الفكرية السلبية وانعكاساتها على الحراك الثقافي والسياسي المجتمعي
قبل 4 دقيقة
من المعلوم لدى الجميع أن الأحزاب الإيديولوجية والدينية بمختلف توجهاتها تعتمد، في المقام الأول، على الأدلجة الفكرية لعقول أتباعها، وخصوصًا صغار السن، عن طريق إقناعهم بأن الحقيقة تنحصر في أفكارها السياسية ومعتقداتها الدينية أو الفلسفية، وأن ما دون ذلك باطل وضلال. ويترتب على ذلك نشوء أجيال معقدة ومتطرفة ومتشددة، رافضة للآخر ومعادية لأي فكر أو رأي مخالف للأفكار والمعتقدات التي تم برمجتها عليها. وما تعيشه المجتمعات البشرية من صراعات وحروب متواصلة هو النتيجة الطبيعية لهكذا سلوكيات معادية للحرية الفكرية ومناهضة للتعدد والتنوع الفكري والسياسي والثقافي، ولهكذا ممارسات تسعى إلى فرض فكر واحد وأجندة واحدة على جميع البشر بالقوة والإكراه.
والشاهد من ذلك:
وأنا أتابع حالة الحراك الثقافي والفكري في المجتمع اليمني، وأتابع النقاشات الفكرية والسياسية بين أفراد المجتمع، سواء في الواقع أو على مواقع التواصل الاجتماعي، وجدت حالة من الجمود في الحوار بين جميع الأطراف المجتمعية، سواء في الجانب الديني أو المذهبي أو الفكري أو السياسي أو الثقافي. جميع النقاشات والحوارات تدور في حلقة مفرغة، تعاني من العقم والرتابة، وتفتقد للإبداع والابتكار والتجديد؛ نفس الطرح، نفس الأساليب، نفس الجدل، حتى يملّ منها المتابع. فكل طرف متمترس حول أفكاره وغير قابل للنقاش والحوار العقلاني والمنطقي مع الآخرين، ويؤمن ببطلان وفساد أي أفكار أو نظريات تتعارض مع أفكاره، دون اعتبار لقوتها وعقلانيتها ومنطقيتها. وهنا تصبح نتيجة أي حوار أو نقاش صفرية وغير مجدية.
وحالة الحوار والنقاش الفكري والثقافي بين أفراد المجتمع ما هي إلا انعكاس للأوضاع السائدة في الواقع، وما يحدث من صراعات وحروب وصناعة المزيد من الكراهية والعداء بين أفراد المجتمع هو نتاج الحالة الفكرية. فماذا ننتظر من مجتمع يعاني حراكه الفكري والثقافي من الإعاقة والعجز، وتهيمن عليه ثقافة الكراهية والعداوة والاستحواذ والإقصاء والرفض للآخر؟ ماذا ننتظر من مجتمع تقوم فيه القوى الفاعلة بمختلف توجهاتها بتعبئة عناصرها تعبئة سلبية هدّامة، رفضًا للتنوع والتعدد، وأدلجة لفكرة واحدة ورأي واحد، تعبئة إقصائية واستحواذية؟ حتمًا الصراع والتنافر والكراهية هو النتاج الطبيعي لهذه التعبئة، ومن غير المعقول أن تنتج عنها أفكار راقية وحضارية أو مجتمعًا مترابطًا متحابًا متعايشًا سلمياً.
وبذلك، فإن ما يعيشه المجتمع اليمني اليوم من خلافات وتباينات وصراعات وحروب هو انعكاس لحالة الحراك الفكري والثقافي السلبي السائد. كل حزب وطرف لا يتردد في تعبئة عناصره بكراهية الآخرين وشيطنتهم، وصولًا إلى حد تكفيرهم عند بعض الأحزاب والجماعات المتطرفة والمتشددة. إن بيئة يسود فيها هكذا حراك ثقافي وفكري تنطبق عليها المقولة العربية: "من يزرع الشوك لا يحصد العنب"؛ فمن يزرع الكراهية والتطرف والتشدد ورفض الرأي الآخر والفكر الآخر لن يحصد المحبة والسلام والتعايش السلمي والارتقاء الفكري والثقافي، بل لن يحصد سوى العداء والرفض والصراع مع الآخرين، لأن لكل فعل رد فعل مساوٍ له في القوة ومضاد له في الاتجاه. وكل ما يحصده المجتمع اليمني اليوم من تنافر وتصادم وخلاف هو ثمار تلك السياسات الفكرية والثقافية الرافضة للتعدد والتنوع.
وليس أمام المجتمع اليمني بمختلف أحزابه وجماعاته وتوجهاته ومذاهبه سبيل للخروج من هذه السلبية والعدائية الفكرية والمذهبية سوى انتهاج سياسات فكرية وثقافية جديدة تقوم على:
احترام التعدد والتنوع الثقافي والفكري والسياسي.
الاحترام المتبادل وقبول الآخر.
التحرر من التعصبات بكل صورها.
التخلص من أساليب التعبئة السلبية وأحادية الفكر والرأي.
ترك المساحات الواسعة للعقل اليمني للاختيار والبحث بكل حرية دون إكراه أو اجبار أو استغلال.
ومن حق كل طرف طرح أفكاره ونشرها بالحكمة والموعظة الحسنة، دون مصادرة أو تجريم أفكار الآخرين. فالأفكار التي تمتلك القوة والإقناع والحجة هي التي سوف تسيطر على العقول وتكسبها، وليست بحاجة لمحاربة أفكار الآخرين أو فرضها بالقوة. الأفكار القوية والحضارية، النافعة للناس دينيًا ودنيويًا، والمتطابقة مع العلم والعقل والمنطق، هي التي تغزو العقول وتسيطر على القلوب. والفكر الإسلامي عندما انتشر لم ينتشر بقوة السيف بقدر انتشاره بقوة تشريعاته وأفكاره واحترامه للتعدد والتنوع، قال تعالى: "لا إكراه في الدين". من يعتمد على السلطة أو القوة أو النفوذ لفرض أفكاره ومحاربة أفكار الآخرين يعتمد على عوامل متقلبة ومتغيرة وليست مستقرة، بينما تبقى البينة والحجة والعقلانية والحكمة والموعظة الحسنة ثابتة ودائمة.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news