إن كان هناك من غرائب حول مراسم الضيافة في العالم، فإن اليمن بلا شك سينافس على المراكز الأولى لأن من عاداته العتيقة أن أول ما يستقبل به الضيف هو نبتة "القات" الأكثر خطورة التي أدرجتها منظمة الصحة العالمية ضمن المواد المخدرة عام 1973، وعلى رغم اقتصار الأمر في العهد السابق على الرجال، فإن الظاهرة بدأت تتفشى لدى النساء ومجالسهن أخيراً.
وهذه المراسم الضيافية لا يمكن تصنيفها على أنها ظاهرة حديثة، إذ إنها من العادات الاجتماعية، لكن الأكثر بروزاً أخيراً هو المباهاة بها في أوساط الفتيات عبر منصاتهن الخاصة، حتى غدت النبتة الخضراء كما لو أنها "بوكيه ورد" تحملها النسوة خلال زياراتهن وتصنف ضمن الهدايا رفيعة المستوى.
والنبتة التي بدأت تتوسع في البلاد برزت في القرن الـ16 كنبتة تسبب الإدمان، وتحوي كثيراً من المواد التي تحاكي تأثير الكوكايين والشبو، وهي بتناولها والإدمان عليها تؤكد منظمة الصحة العالمية أنها "مسببة للإدمان النفسي الذي يشعر معه الشخص برغبة مستمرة في استخدامها".
الهروب من الواقع
وواصلت رقعة أشجارها الخضراء الداكنة انتشارها اجتماعياً بين الفئات المختلفة كباراً وصغاراً، رجالاً ونساءً وأضحت تنافس المحاصيل الزراعية التي اشتهر بها اليمن كالرمان والعنب واللوزيات والحبوب وغيرها.
ولم تفلح جهود اقتلاع القات أو الحد من تعاطيه حتى بلغ "نواعم" اليمن اللاتي بدأن يسابقن الرجال على اقتنائه ظهيرة كل يوم، ولوقته طقس يخصصه اليمنيون بعد عناء يوم عمل.
وهذه الظاهرة أو العادة القاتلة تكشف عن أزمة اجتماعية عميقة تفاقم المشكلات المركبة التي تعانيها البلاد على الصعيد الإنساني بفعل 10 أعوام من الحرب والفقر والجوع.
وكشفت دراسات بحثية عن أن أعوام الحرب أسهمت في انتشار تعاطي الفتيات من الفئات العمرية ما بين 17 و26 سنة، بعكس ما كانت عليه الحال خلال العقود الماضية عندما انحصر تعاطيه في فئة قليلة من النساء كبيرات السن والمتزوجات خصوصاً.
وتكشف لـ"اندبندنت عربية" البروفيسورة نجاة صائم وهي متخصصة في علم النفس الاجتماعي عن أنه "في السابق كان من المعيب جداً أن تتناول الفتيات القات سواء المتزوجات أو العازبات، واقتصر تناوله على الكبار في السن من النساء ولساعات قليلة بين العصر وحتى المغرب"، أما اليوم "فامتدت هذه العادة إلى الشابات، خصوصاً المتزوجات".
وترجع صائم الأسباب إلى "تقليد الرجال والشعور بنوع من الندية تحت تأثير حال الانتشاء والكيف وما يمنحه من هروب من هموم الواقع ومشكلاته الكثيرة"، إضافة إلى "مجالسة الصديقات كفرص اجتماعية، خصوصاً أن عامل الجذب الاجتماعي لمجالس تعاطيه وطقوسها المميزة بمثابة العامل الرئيس لتزايد تناوله في المجتمع".
أوراق القيلولة الخضراء
والمفارقة الأكثر إيلاماً أن القات الذي تتناوله النساء في مجالس خاصة، يمنح نشوة لحظية لكن تعقبه مشاعر "قلق وتوتر وارتفاع في نبضات القلب" بعد بصقه.
وعادة ما يجري تناوله بعيد تناول طعام الغداء ظهيرة كل يوم، إذ يتهيأ نحو 80 في المئة من اليمنيين لجلسات ما يُعرف بـ"المقيل" التي تبدأ قبيل العصر وتنتهي عند المغرب، وتمتد لدى بعضهم إلى قرب منتصف الليل أحياناً، يمضغون خلالها أوراق هذه النبتة في لحظات تشعرهم بالانتشاء والارتياح.
وارتبطت هذه المجالس بسماع الأغاني التي تناسب هذا النوع من الخدار الذي يشعر به المتعاطي ولا سيما ذات الإيقاع البطيء مع تناول مشروبات منوعة من الكولا والشعير والشاي وقشر القهوة المحلاة والماء البارد المبخر وماء الزبيب وغيرها لتعمل على كسر مذاقه المر.
ويستخدم القات عن طريق المضغ بوضع أوراقه الخضراء على أحد جانبي الفم، ملتصقاً ببطانة الخد الداخلية في ما يُعرف شعبياً بـ"تخزين القات"، وقد يستمر هذا الأمر لساعات طويلة.
وكان من الملاحظ في مجتمع جلسات القات الخاصة بالسيدات انتشار تعاطي التدخين في المقابل، خصوصاً النرجيلة والسجائر التقليدية أو الإلكترونية التي امتدت سحائب أدخنتها في فضاء البيت اليمني على نحو مريع وغير مسبوق يتهدد الترابط الاجتماعي الصحي الذي يفترض توافره داخل بيت الأسرة.
وتؤكد صائم أن دراسة أجرتها في جامعة صنعاء قبيل الحرب كشفت عن أن ثمة "ارتباطاً شديداً بين التدخين وتناول القات وأحدهما يدفع إلى تعاطي الآخر"، مضيفة أنه "خلال الأعوام الماضية بيّنت دراسات عن تزايد مهول ومخيف في تناول القات مع الشيشة في أجواء بعيدة أحياناً من أعين الأهالي".
وعلاوة على ذلك فإن للقات تأثيرات صحية مدمرة في الجهاز الهضمي، تزيد بحسب دراسات من نسب الإصابة بالتسمم الكبدي وسرطان الأمعاء.
محال خاصة
واستجابة للطلب المتزايد، برزت أخيراً ظاهرة انتشار محال بيع القات الخاصة بالنساء مع خدمة التوصيل، في مسعى تجاري لتلبية حاجات المجتمع اليمني التقليدي، إذ تجد الفتاة حرجاً في الذهاب إلى أسواقه مع الحفاظ على الخصوصية، ولا سيما أن هناك أسراً تحرم تعاطيه بين أفرادها الرجال، ناهيك عن النساء سواء لأسباب دينية أو اجتماعية.
ووفقاً لباحثين اجتماعيين، فإن انتشار محال بيع القات للسيدات "يثير جدلاً واسعاً يعكس أبعاد المشكلة في جوانبها الاجتماعية، مما يعني تحولاً اجتماعياً يُنظر إليه بعين القلق لأنه يشجع باقي الفتيات على تعاطيه، إضافة إلى تداعياته الصحية والاقتصادية على الأسرة".
للعلاقة الحميمة
ويتردد بصوت اجتماعي هامس أن بعض النساء يتعاطين القات ليرضين شريكهن أثناء العلاقة الخاصة، وهو جانب مرتبط بشعور الرغبة والانتشاء الذي يمنحه القات لدى بعض ماضغيه.
ومع عدم اكتمال الأبحاث العلمية المرتبطة بالكشف عن الظواهر النفسية والأسرية للقات ودراستها، لا تُعرف دقة هذه المعلومات ليستشهد بها في ما يتعلق بالتأثير في العلاقة الزوجية، وفقاً لصائم التي ترى أن جلسة القات وطقوسها الاجتماعية بين الصديقات والجيران هي الدافع الرئيس لتعاطيه.
وتستدل بالعاصمة صنعاء التي كانت جلسة القات بين الزوجين "تمثل وقتاً مميزاً يقضيانه مع بعضهما وهنا قد يكون للزوج دور في تشجيع زوجته على تناول القات حتى لا تمنعه من تناوله كما يفعل بعضهن".
"مأساة اليمن التي تزداد وتتسع في ظل غياب الدولة"
في الواقع تؤكد صائم أن "انتشار هذه العادة عامل مدمر للأسرة اليمنية اقتصادياً ونفسياً واجتماعياً". وتتوقع الدكتورة اليمنية أنه مع "تزايد انتشار تناوله لدى الفتيات والنساء مع معاناة المجتمع ظروفاً اقتصادية صعبة يؤشر على انتظار مزيد من المشكلات والظواهر السلبية داخل المجتمع اجتماعية واقتصادية ونفسية، خصوصاً لدى فئة الشابات اللواتي ليس لديهن مورد دخل يغطي نفقات شرائه العالية لأنها فئة معرضة للتأثر بالأصدقاء" وتختتم حديثها بأن القات هو "مأساة اليمن التي تزداد وتتسع في ظل غياب الدولة".
وترجع بعض المراجع معرفة اليمنيين بالقات إلى القرن الـ16 للميلاد ونشر عدد من المجلات العلمية أن أول من استخدمه هم المصريون القدماء كوسيلة لإطلاق خيالاتهم الإلهية وتصفية أذهانهم للتأمل، إلا أن عادة مضغه مشهورة في اليمن وكتب عدد من الرحالة عنها مثل ريتشارد فرانسيس برتون وكارستن نيبور.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news