تربية القلوب قبل تعليم العقول
قبل 5 دقيقة
كثيرًا ما يتردد على مسامعنا السؤال التالي:
لماذا أَخفقت مناهج التعليم في صناعة الضمير؟ فمنذ قديم الزمان أقامت البشرية المدارس والجامعات، وعلّمت الناس الطب والهندسة والفقه والاقتصاد، لكنها فشلت في تعليمهم الضمير.
صنعت العقول، لكنها لم تصنع الوعي الأخلاقي.
منحت الشهادات، لكنها لم تمنح البصيرة.
وهكذا وُلد جيل واسع من المتعلمين الذين يعرفون “كيف يعمل العالم”، لكنهم لا يعرفون “كيف يعيش الإنسان بكرامة وعدل”.
الجهل الأخلاقي لا يعني بالضرورة الانحراف أو الجريمة، بل هو الغياب القيمي — حين لا يملك الإنسان بوصلة داخلية تحكم تصرفاته بمعيار الخير والحق والجمال.
إنه الجهل الذي يجعل العالم البارع يبرّر الظلم، والطبيب يتاجر بالمرض، والعالِم الشرعي يسكت عن الفساد باسم المصلحة، والسياسي يخدع باسم الوطنية.
في ظاهره ذكاء وبلاغة، وفي باطنه تكلّس الضمير.
وهذا أخطر من الجهل الفكري، لأن الجاهل فكريًا قد يتعلم، أما الجاهل أخلاقيًا فيبرّر جهله ويمنحه قداسة.
كما أن التعليم الذي يُنتج المهارة دون الوعي يركّز على إنتاج المهارة لا على بناء الإنسان.
تتعلّم كيف تنجح في الامتحانات، لا كيف تحيا بنزاهة.
تعلِّم الأطفال كيف يحسبون الأرقام، لا كيف يحسبون نتائج الكلمة الجارحة أو القرار الظالم.
يخرج الطالب بعد 16 عامًا من التعليم، لكنه لم يتلقَ يومًا درسًا عن الصدق كقيمة حياتية، أو عن المسؤولية تجاه الآخر، أو عن كيفية التعامل مع الخطأ والاختلاف.
ولهذا ترى من يحمل أعلى الدرجات العلمية، لكنه يعجز عن ممارسة أبسط أخلاقيات الحياة اليومية: احترام الوقت، ردّ الجميل، الاعتراف بالخطأ، أو قول “لا أعلم”.
وضِف إلى ذلك وهم التدين ومأزق الأخلاق:
الاعتقاد السائد في مجتمعاتنا أن المتدين هو بالضرورة إنسان أخلاقي، وهذا خطأ كبير.
كل متدين ليس بالضرورة أخلاقيًا، لأن التدين في صورته الشكلية لا يخلق ضميرًا، بل طقسًا.
بينما كل إنسان أخلاقي هو متدين بالفطرة، لأن جوهر التدين الحق هو الإحسان إلى الخلق، والصدق مع النفس، والعدل في التعامل.
الضمير الأخلاقي هو الدين في أنقى صوره:
حين لا تحتاج إلى سلطة تراقبك لتكون نزيهًا، فهذا هو الإيمان الواعي.
4. الجهل الأخلاقي الجماعي:
يتعلم الطفل منذ الصغر أن “الغاية تبرر الوسيلة”، وأن “الذكي هو من يلتف على القوانين”، وأن “الخطأ الجماعي لا يُحاسب عليه أحد”.
وبهذا يُغسل الضمير الجمعي تدريجيًا حتى يصبح الفساد عادة، والكذب مهارة، والغش “شطارة”.
إنه الانحدار الصامت للأمم المتعلمة التي فقدت روحها.
وهنا ينبغي التأكيد على أن التربية الأخلاقية منهج لا موعظة:
الأخلاق لا تُدرّس كمادة نظرية، بل تُمارس كحياة.
فهي لا تنشأ من خُطب الجمعة أو دروس الوعظ، بل من بيئة يعيش فيها الإنسان القيم يوميًا:
يرى الصدق مُكرّمًا، والنزاهة مُكافأة، والعدل مُطبّقًا.
الأخلاق ليست ترفًا، بل نظامًا مناعيًا يحمي المجتمع من الانهيار.
فحين تسقط الأخلاق، لا تنفع الشهادات ولا القوانين.
إننا بحاجة إلى ثورة معرفية تربوية، تجعل التربية الأخلاقية قلب العملية التعليمية لا ذيلها.
تبدأ من رياض الأطفال إلى الجامعات، حيث يُربّى الطالب على:
كيف يفكر قبل أن يحكم،
كيف يفهم قبل أن يرفض،
كيف يختلف دون أن يكره،
وكيف يخدم مجتمعه بإخلاص لا بمصلحة.
نحتاج إلى تعليم يُعيد الإنسان إلى إنسانيته قبل أن يُعيده إلى سوق العمل.
حين يدرك الإنسان أنه جزء من منظومة الحياة، وأن أي فعل يقوم به يؤثر في هذا النسيج العظيم، يصبح الخير خيارًا واعيًا لا واجبًا ثقيلًا.
لقد آن الأوان أن ننتقل من “تعليم العقول” إلى “تربية القلوب”.
فالعلم بلا أخلاق يصنع أدوات الدمار، بينما الأخلاق بلا علم تصنع سذاجة.
أما حين يجتمع العلم بالأخلاق، يولد الوعي الذي يصنع الحياة.
لأن الأمم لا تنهض عندما تتعلم فحسب، بل حين تُحسن أن تكون إنسانًا وهي تتعلم.
*كاتب وأكاديمي من العراق
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news