في كتاب “نظام التفاهة”، يفتح ” آلان دونو ” بابًا يقود القارئ إلى عمق عالم يتشكل بهدوء مظلم، عالم تتراجع فيه القيم خطوة بعد أخرى، وتتقدم فيه السطحية بثقة متعجرفة، وأثناء قرأتي لهذا الكتاب ، شعرت بأن الكاتب يسرد حكاية زمن ضاع معناه، حكاية تشبه ذلك الانحدار البطيء الذي تحدثت عنه الكاتبة “إليف شافاق” حين تلتقط التفاصيل الصغيرة وتحوّلها إلى إشارات على تصدّع كبير في الروح الإنسانية.
يكتب دونو من مكان يشبه حافة الهاوية؛ يراقب ما يجري دون ضجيج، يدوّن التغيّر الهائل الذي حول السطحية إلى قاعدة، والفراغ إلى معيار. يروي لنا عن انحدارًا خطير نعيشه بطريقة متدرجة، كدنا نراه أمر عاديًا، يصف التفاهة بكائن يتكاثر وينتشر، يزحف في المؤسسات ويتسلل إلى العقول ويعيد تشكيل الوجدان.
في الاقتصاد، رسم “دونو” صورة متعبة لعالم نسي جوهره، عالمًا استبدل الشغف بالمردودية، والمهارة بالسرعة، والابتكار بمطاردة الربح العابر. وصفه يذكّرني بما تقوله “شافاق” عن الأرواح التي تفقد لونها حين تُقاس قيمتها بحصادها المادي وتنسى عمقها إلانساني، و يبدو الإنسان مجرّد ترس آخر، وتتحول المهارات إلى مظاهر، والاحتراف إلى واجهة، ويتبخر المعنى بصمت لا يسمعه أحد.
في السياسة، تعامل “دونو” مع الواقع كما لو أنه مسرح يعرض مسرحيات دون أرواح. شخصيات كثيرة، أصوات عالية، ووجوه تعرف كيف تُرى ولكنها لا تعرف كيف تفكّر. يشير دونو للحظة التحوّل، حيث أصبح الفراغ يعتلي المنابر، وصار الخطاب السياسي أقرب إلى عروض استعراضية من كونه أداة للتغيير. ولعلّ أكثر ما يلامس القلب هو شعوره العميق بأن الطرد القسري لأصحاب الفكر ماهي إلا نتيجة طبيعية لعالم يهاب العمق ويخاف الأسئلة التي تفتح الأبواب.
أما بالثقافة، فيصف التفاهة كما يُوصف المساء حين يفقد لونه الأرجواني ويتحوّل إلى ضوء دون دفء. كتب عن موسيقى تحوّلت إلى صخب، وعن فن تجرّد من رسالته، وعن جمهور يُقاد بما يشتهي لحظياً، ويبتعد شيئاً فشيئاً عن ذاته. يشير إلى تلك الظاهرة التي نراها يوميًا، حيث تُرفع الأعمال الخفيفة إلى القمة، ويُدفن الفن الرفيع تحت طبقات من اللامبالاة، كأنّ الجمال نفسه أصبح عبئاً على عصر لا يحتمل التفكّر.
وحين وصلت بقرأتي إلى التعليم، شعرت وكان “دونو” وضع إصبعه على جرحي، وهو يصف نظامًا يصنع طلابًا يعرفون كيف ينجحون ولا يعرفون كيف يبحثون عن حقيقتهم، أصبح التعليم يمضي مثل نهر سريع، يترك وراءه شواطئ جافة لا ينبت فيها السؤال ولا يتشكل فيها الخيال، وهنا أيضًا شعرت باقتراب صوته كثيرًا من روح “شافاق” حين تحدثت عن طفل داخلي يخبو تحت ضغط المقاييس والأرقام، والإنجازات المعلّبة.
خرجت من هذا الكتاب، وأنا أشعر بأن “دونو” يتشفى بتفاهة العالم، ويسلط الضوء على معركة داخلية، مقاومتها تبدأ من تمسك الإنسان بصوته الداخلي، بوعيه، وقيمته، بذلك الخيط الرفيع الذي يربط الإنسان بذاته، حين يهدد الغبار أن يحجب رويته.
قراءة “نظام التفاهة” تشبه السير في ممر طويل من الأسئلة، ممر يجعل المرء يعيد النظر في ما يراه عاديًا، ويصغي لما يسمعه كل يوم دون أن ينتبه لمعناه. قراءة كتاب “نظام التفاهة” أيقظ فيني شيئًا دفينًا، شيئًا يتشبث بالعمق وسط عالم يحتفي بالهشاشة، كأنّ الكتاب دعوة غير مباشرة إلى أن نحمي أنفسنا من أن نغدو جزءًا من الضجيج، وأن نبحث عن ذاك الصمت العميق الذي يولد منه الفكر والوعي والمعنى.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news