في الخريطة الجيوسياسية السودانية، تمكنت سلطة بورتسودان من جعل "ثغر السودان الباسم"، المدينة الساحلية الساحرة، أن تصبح عنوانا عالميا جديدا للشلل السياسي والإفلاس الأخلاقي..
بل تمكن جنرالات الحرب الطامحين بتوسيع نفوذهم، لجعل بورتسودان الوادعة منصة لإطلاق مؤتمرات الموت والدمار والخراب التي تدعو لصب المزيد من الزيت فوق النار المشتعلة.
الجنرال عبد الفتاح البرهان اختار المواجهة المباشرة، وخاطب السودانيين بلهجة العسكر المتحصنين بالقوة الغاشمة التي تسحق كل شيء، يعلن “التعبئة العامة" كدعوة صريحة لحرب شعبية لن تنتهي أبدا، تُسلّم فيها القرى والمدن إلى مسارات التدمير الذاتي، وتُختزل فيها الدولة إلى مشروع طلقة أخيرة غادرة تستهدف صدر السودان، فمن أين جاء بهذه العقلية؟
أليس الواقع يحكي عن "صفقة" طُبخت في الظلام مع "إخوان السوء"، لمعاقبة كل من يطالب بحكومة مدنية، كل من يريد عودة السلام والأمن للسودان؟
ما زلت أتابع عبر منصتي في (X)، عبر عشرات أو آلاف التعليقات التي تأتيني في الشأن السوداني، أن حملة الإخوان المسعورة تجاه الإمارات لم تتوقف، حتى بعد أن انكشفت كل الفبركات والتزييف، وحتى بعد صدور البيان الرسمي الصادر عن وزارة الخارجية الإماراتية الذي أعاد ترتيب المفاهيم، ووضع النقاط على الحروف بشأن الجهات التي تُطيل أمد النزاع وتدير الهروب السياسي عبر واجهات التصعيد.
فكل فقرة في البيان تحمل توثيقًا متينًا للأكاذيب المتداولة في بيانات سلطة بورتسودان، وتُظهر خطوط التلاعب الإعلامي التي تتقاطع مع شبكات العنف.
ففي كلمتها أمام مجلس حقوق الإنسان، جدّدت دولة الإمارات التزامها بمسار السلام في السودان، مشيرة إلى أن بيان الرباعية يمثّل خريطة طريق دقيقة نحو هدنة إنسانية وانتقال سياسي تقوده حكومة مدنية مستقلة.
وأكد السفير جمال المشرخ، المندوب الدائم لدولة الإمارات لدى الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى في جنيف، بشجاعة أن المؤسسة العسكرية السودانية اختارت منابر الكذب والتحريض، في محاولة لإخفاء دورها المحوري في كارثة الحرب. كما شددت الإمارات على أن أراضيها ستبقى عصية على أي استغلال غير قانوني، خصوصًا فيما يتعلق بمحاولات تهريب السلاح، وأن منظومة الرقابة فيها تواصل العمل بأعلى درجات الصرامة.
ما زاد توتر الجماعة الإخوانية الإرهابية أكثر، وجعل ليلهم يبدو معتما وطويلا أكثر، هو اكتشاف الشبكة التي حاولت تمرير عتاد عسكري إلى السودان، والدلائل تبدو خطيرة جدا: طائرة خاصة، صفقات منظمة، وثائق، تسجيلات، وأموال متداولة بين أطراف محددة، في مقدمتهم لجنة التسليح بقيادة البرهان، وبترتيب مالي مشترك مع مسؤولين بارزين في بورتسودان. التحقيقات وضعت تفاصيل الخطة كاملة على الطاولة، وكشفت مستوى التحوّل داخل الجيش إلى أداة سمسرة مدروسة.
يمكننا الآن إعادة تعريف سلطة بورتسودان بصياغة دقيقة واقعية، كيان يصدر قراراته ويُدير عملية منظمة لتفجير مبادرات السلام، وفي ذات الوقت يحاول فرض واقع عسكري يتقاطع مع مصالح أمراء الحرب، كيف لا يلاحظ البعض أن مواقف البرهان المعلنة توضح بجلاء أنها "تنفذ" أجندة صُمّمت لتفكيك "المشروع الوطني السوداني"؟
كيف لم يلاحظ الجميع أن المشهد السوداني اليوم يشبه تلك اللحظة السوداء التي عاشتها يوغوسلافيا في التسعينيات، حين اختار "سلوبودان ميلوشيفيتش" أن يحكم بالدم، لا بالقانون. مثله، حوّل البرهان الجيش إلى منصة للثأر السياسي، واستمد بقاءه من رماد الحرب، ورفض كل نداء للسلام. كلاهما صنع أعداء وهميين، حرّض الناس على بعضهم، وفتح أبواب السلاح في وجه كل مبادرة. ميلوشيفيتش انتهى في لاهاي، يحمل تهم الإبادة، وترك بلاده ممزقة. أما السودان، فما زال أمامه فرصة، طالما بقي صوت العقل مدعومًا بحلفاء لا يتورطون في دم، بل يدافعون من أجل حياة.
لكن كيف يتخلص السودان من الآلة الإخوانية الإعلامية التي تبني سرديات ترويجية زائفة مفبركة بينما تتحرك الطائرات المحملة بالسلاح لقتل السودانيين دون تمييز، كيف هذا؟ خطابات تعبوية تهدد بالموت مع ثبوت تهمة تهريب السلاح، هل أصبحت سلطة بورتسودان عصابة مثلا؟ إن ما يفعله "الجنرال الفاشل" في إدارة فوضى شاملة سيلحقه بلا شك سقوط شرعيته الهشة التي كشفها الجميع، وسينتهي بلا شك في "لاهاي".
ما زال الموقف الإماراتي علنا وبكل وضوح يظهر ثابتًا وهادفًا: دعم صريح للمسارات السلمية، تعاون منهجي مع المجتمع الدولي، وشراكة صادقة في المشاريع الإنسانية. الإمارات تعمل لحماية سيادتها بقوة القانون، وتُقدّم يدها ممدودة نحو السودان من خلال الإغاثة، والدبلوماسية، والمنصات الأممية.
تعتبر دولة الإمارات أن سلطة بورتسودان باتت الآن تمثل مشروعًا خاصًا خارج إطار الشرعية الوطنية، وتخضع لتوجهات فئوية تُكرّس الانقسام وتُعطّل الانتقال السياسي. لذلك دعت الإمارات المجتمع الدولي إلى توسيع نطاق دعمه لمسار يقوده المدنيون، ويُبنى على أسس الشفافية والتمثيل الشعبي، ويهدف إلى تأسيس دولة مؤسسات مستقرة تُلبي تطلعات السودانيين في الأمن والتنمية، بعيدًا عن تأثير الأطراف المسلحة ومراكز القرار غير الدستورية.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news