*عزالدين سعيد الأصبحى:
**كنتُ فى زيارةٍ لجنوب إسبانيا هذا الأسبوع، وليس هناك ما يلفت النظر أكثر من حقول الزيتون الممتدة حتى الأفق، سوى تلك الرايات الفلسطينية التى تخفق فى الريح، والمعلَّقة على الشرفات، وانتشار عبارة «الحرية لفلسطين». وإسبانيا ليست استثناء فى هذا المدّ الشعبى العارم المؤيِّد لفلسطين. فالعالم خلال العامين الأخيرين لايزال يغلى تحت موجة «تسونامي» من الوعي، تجتاح العواصم والساحات، من المظاهرات التى تفيض بالبشر والضمائر، إلى انتخابات عمدة نيويورك، التى أعادت إلى الأذهان غضب طلاب الجامعات الأمريكية. وتعيد هذه المشاهد التفكير فى حالة الخلل فى النظام الدولى ككل، فكل ذلك مشهدٌ مترابط، وليس مجرد حالات جزئية منعزلة. إنّ تلك الانتخابات تعكس فى الحقيقة التحوّل الكبير الذى عرفه الرأى العام الغربى عموما، والأمريكى خاصة، وفوز زهران ممدانى يعبّر عن الفجوة بين السردية الغربية الإعلامية والواقع الحقيقى للرأى العام الأمريكي. ورغم ما تبدو عليه واقعة انتخابات عمدة فى مدينة أمريكية بعيدة عن مشهدنا، وبأنها شأنٌ داخلي، فإن أجندة الصراع هناك بُنيت، فى كثير منها، على مقاس المواقف من هذا الشرق الملتهب. فأبرز ملامح خطاب الانتخابات لإدارة مدينة بحجم نيويورك، ذات ميزانية تفوق 116 مليار دولار، وتضم أكثر من 300 ألف موظف، كان فى جوهره بشكل أو بآخر يدور ضمن دائرة الحرية لفلسطين. وكأن العالم اليوم يفيق يوما بعد آخر، رافضا منطق الذلّ الذى تحاول آلة الاستبداد الصهيونى فرضه واقعا على البشر جميعا، لا على العرب وحدهم. والجماهير التى تملأ الميادين وتهتف «الحرية لفلسطين» لا تنادى بفلسطين فقط، بل ترفض سقوط المعنى الإنساني، وتعلن أن العدالة لا وطن لها. فقضية فلسطين لم تعد جغرافيا، بل تعد اختبارا للضمير البشرى بأسره. ولانزال نتذكر مشهد انسحاب معظم ممثلى دول العالم من قاعة الأمم المتحدة فى أثناء خطاب نيتانياهو؛ فقد كانت لحظةً فارقةً، انكشفت فيها عزلة الكيان الصهيوني، وتجلّى وجه العالم وهو يستعيد شيئا من ضميره الغائب. كما جاء مؤتمر شرم الشيخ سدا لوقف فكرة التهجير على الأقل. إن غضب الناس يعيد بوصلة الضمير الجمعى للشعوب إلى حيث يجب أن تكون عليه الأمور. ولم يتوحّد العالم على شعارٍ كما توحّد على «الحرية لفلسطين». فالتضحيات الفلسطينية أيقظت فى شعوب الأرض ضميرا ظلّ نائما طويلا، وأعادت للإنسانية معنى كانت قد نسيت مذاقه. قد يبدو المشهد محبطا فى موازين القوة، فنيتانياهو يردّد أنّ وقوف 180 دولةٍ مع فلسطين لا يعنى شيئا ما دام يقف إلى جانبه سيدُ البيت الأبيض وحيدا، مالكُ القوة فى عالم اختلّت فيه القيم. لكن ذلك وهمٌ، فالعزلة قاتلة، ووصمة الدم لا تُمحى بسهولة، والكيان الذى يحيا على الخوف لا يمكنه أن ينتصر على الحياة أو يصنع السلام. ولن تنكسر عنصرية الكيان إلا حين ينكسر خطاب الكراهية الدينى داخله، ذلك الخطاب الذى يرى فى إحراق العالم خلاصا مقدسا. ولن تنطفئ النار ما لم يُكسر هذا التطرّف المتجذّر فى عقول الساسة الغربيين قبل الإسرائيليين، أولئك الذين يخلطون الدين بالسياسة. ومع ذلك، فإن الأمل يولد من رحم الرماد، كما يقول الشعراء. فهذا التحوّل العالمى المذهل فى الوعى الشعبى يجعل من شعار «الحرية لفلسطين» نداء كونيّا يعني: «الحرية للعالم». وقراءة نجاح شاب مسلم مثل عمدة نيويورك تُفهم من هذه الزاوية، فقد حرّر جزءا كبيرا من المجتمع المدنى فى نيويورك من خطاب الهيمنة العنصرية الصهيونية، ليعيدهم إلى دائرة اهتمامهم الوطنى عبر بوابة عدالة القضية الفلسطينية. فالعالم الذى يخرج غاضبا ضد حرب الإبادة فى غزة، إنما يواجه آخر قلاع العنصرية فى عصرنا، ويقاوم آخر مظاهر الظلام فى تاريخٍ ظنّ أنه تجاوزها. وحين تتلاقى القبضات الخاوية للناشطين مع دموع الأمهات فى غزة، وحين يهتف الشباب فى مدريد وباريس ولندن «الحرية لفلسطين»، ويصوّت الناس فى صناديق الاقتراع ضد التطرّف والعنصرية فى أمريكا، تصبح فلسطين مرآةً تختبر بها الإنسانية نفسها: إمّا أن تكون وفيّةً لقيم العدل والحرية، أو تغرق فى ظلام الهيمنة والعنصرية. ومع انقشاع دخان الحرب الآن ولو قليلا، سيقف العالم، وقد بدأ فعلا يلمس ذلك، أمام امتحانٍ آخر: كيف يُعاد اعمار غزة؟ ليس بمعاولٍ من إسمنت وحديد، ومجالس شركات المقاولات، بل بأذرع الإنسانية التى عليها أن تعيد إعمار الإنسان قبل الحجر. فغزة التى تهدّمت بيوتها ما زالت تنبض بأطفال يرسمون الشمس على الجدران المهدّمة. وإعمارها الحقيقى يبدأ حين يُعاد ترميم الأرواح، وتُستعاد الثقة بالعدالة، والإيمان بأنّ الحياة قادرةٌ على أن تنهض من بين الركام. فقدرُ فلسطين أن توقظ فى العالم روحَ الحرية، وأن تبقى، رغم الجراح، نافذة الضوء للإنسانية.
* سفير بلادنا لدى المملكة المغربية
** نقلا عن جريدة الاهرام المصرية
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news