غرفة آل باعباد بين العلم والثورة

مسعود عمشوش

ظهرت مدينة (الغرفة) عام 701هـ، حينما بنى الشيخ عبد الله بن محمد بن عمر باعباد، الذي اشتهر بعلمه وورعه وإحسانه وقدرته على إصلاح ذات البين، غرفةً في جنوب منطقة (باثوّار أوالمحلة)، الواقعة على مشارف مدينة سيؤن الغربية، وذلك بهدف تربوي ودعوي. وسرعان ما تحولت هذه الغرفة إلى محطة يتوقف فيها طلاب العلم والمسافرون. ثم توسع ذلك المبنى الصغير، فبنيت بجانبه المزيد من الغرف والملاحق، وأصبحت المنطقة مأهولة بالسكان، وشيدت فيها المساجد والأسواق وظهرت مدينة محصنة لها أسوار تمتعت بسمعة علمية وسياسية واقتصادية كبيرة.

ومن أوائل من استقر في غرفة آل باعباد، إضافة إلى آل باعباد: المشايخ آل باجمال وأشهرهم الفقيه عبد الله بن محمد باجمال، وآل باضريس وآل الجرو وآل باعامر وآل عطوفه وآل باحشوان وآل بلجون وآل بافضل وآل بلرقعان وآل الحبشي وآل باسلمة وآل مسلم والعبادي وآل باعامر وآل شيبان وآل طرموم وآل باحلوان وآل باشادي وآل جوبان، وبعض فخائذ آل كثير الذين لا ينحدرون من سلاطين آل عبد الله، مثل آل بلفاس وآل بن عبدات وآل بن مهري وآل باشميلة وآل منقوش.

وقد أسهم في ترسيخ الدور العلمي والاجتماعي والسياسي للغرفة كل من آل باجمال وآل باعباد وآل الحبشي آل كثير. فمنذ نشأتها ظلت مدينة الغرفة تحتضن الغرفة العلماء وطالبي العلم الذين كانوا يأتون إليها لتلقي دروس الفقه على يد الشيخ العلامه المؤسس عبدالله محمد باعباد. ويقال إنه كان يجهز في الليلة الواحدة أكثر من (400) رغيف خبز لطلابه الذين وصل عددهم إلى اكثر من(1600) طالب علم. وبفضله أصبحت الغرفة مركز علم وتنوير وإصلاح اجتماعي.

وقبل نحو عشر سنوات، وبعد أن فقدت الغرفة كثيرا من حيويتها بسبب شق الطريق السريع بين شبام وسيؤن الذي أصبح يمر بمحاذاة مسيال الوادي بعيدا عن الغرفة، سعى عصام بن حبريش الكثيري، الذي كان حينها وكيلا لمحافظ حضرموت لشؤون الوادي والصحراء، إلى تعويض الغرفة عما فقدته بسبب ابتعاد الطريق، وقام بوقف مساحة كبيرة من الغرفة لتشييد كلية للطب تابعة لجامعة سيؤن. وقد تخرجت أول دفعة من طلاب هذه الكلية في نهاية العام الدراسي الماضي. يحيا العلم!

واليوم لا يزال يعيش في الغرفة الباحث المحقق عبد الله الحبشي الذي أثرى المكتبة العربية بنحو مئة وخمسين كتابا. وقد زرته في إحدى ليالي رمضان قبل عامين برفقة الباحث المعمر المؤرخ جعفر محمد السقاف، وكتبت له ترجمة بعنوان (سحور وجلسة شاي في ضيافة المحقق عبد الله الحبشي).

ومن أسرة آل باحمال اشتهر في الغرفة الشيخ الداعية المحقق محمد عبدالرحمن سراج الدين باجمال (1019) هـ، وله من الكتب الكثير مثل (مواهب البر الرؤوف). وفي الغرفة شيد العلامه أحمد بن زين الحبشي مؤسس حوطة أحمد بن زين المتوفي (1144)هـ مسجدي (باعلوي والروضة). واشتهر فيها الأديب الشاعر الصوفي عيدروس بن عمر الحبشي، وله قبة بيضاء جميلة وعدة مؤلفات محفوظة في مكتبته بالغرفة أو مكتبة الأحقاف للمخطوطات بتريم. 

ومن أعلام الغرفة المتأخرين الشيخ القاضي عبدالرحمن بن عبدالله باعباد مؤسس مدرسة الدعوه الخيرية 1344هـ، والشيخ المحسن عبدالله عبدالرحمن محمد طرموم الذي شيد مدرسة (طرموم الخيرية)، والشيخ عمر بن سالم باعباد الذي ترك لنا له عددا من الدراسات والكتب مثل (حضرموت والأحداث) (حضرموت والتاريخ). 

ومن المعلوم أن كثيرا من آل باعباد قد انتشروا في مختلف أصقاع حضرموت، ومنهم من استقر في الضالع وأخذ اسم العبادي. كما أنهم أول من بادر إلى تشييد السكن الخير والجماعي في منطقة شعب نبي الله هود. ولا تزال مهمة صيانة تلك المباني سنويا تقع على عاتقهم. لكن بنادرهم وكلمتهم لم تعد هي العليا هناك.

واليوم يعد آل باعباد مناصب الحموم في الهضبة والمشقاص، وهناك الكثير منهم يعيشون في مختلف تلك المناطق. ووفق المؤرخ عبد الرحمن الملاحي تعهّد سكان المشقاص بدفع نسبة من إنتاجهم الزراعي لمنصبهم من آل باعباد.

وفي مطلع القرن الماضي (عام 1924) سخّر عمر عبيد عبدات الكثيري ثرواته التي جمعها في جنوب شرق آسيا لبناء إمارة في مدينة الغرفة، وساعده في تحقيق مشروعه أخوه الثري صالح عبيد وبعض المتنورين من أبناء الغرفة، مثل الفقيه محمد عبيد عبود والقاضي محفوظ سعيد المصلي اليافعي قاضي شبام وضواحيها.

وبالمقابل وقفت ضده الفخائذ الشنفرية مثل آل فاس وآل كثير والقيعطي، وكذلك السلطات البريطانية التي قررت حصار ابن عبدات وإخراجه من الغرفة بالقوة. وبعد توقيع اتفاقيتي الحماية بين المستعمر البريطاني والقعيطي عام 1937 ثم الكثيري عام 1939، ووفاة الممول للإمارة الثري صالح عبيد عبدات في إندونيسيا، قررت بريطانيا استخدام مختلف الأسلحة لسحق ابن عبدات، بما في ذلك الطائرات والمدافع، وفرضت حصارا اقتصاديا مشددا على الغرفة. إلا أن بدء الحرب العالمية الثانية لم يمكن بريطانيا من القضاء على ابن عبدات إلا في نهاية الحرب؛ ففي عام استفادت بريطانيا من قواتها التي شاركت في هزيمة الحلفاء في العلمين وشنت هجوما عسكريا معززا بالطيران والمدفعية والدبابات على المدينة وذلك بدءا من صباح يوم 6 مارس 1945 وأطبق الحصار من الغرب والشرق والشمال، وأثر قُتل محبوب البدوي قائد العمليات العسكرية لابن عبدات وهو يقوم بعملية استطلاع في ديار آل فاس في سير الحرب. وفي صباح السابع من مارس 1945 أعلن ابن عبدات الاستسلام ورفع الأعلام البيضاء على أسوار الغرفة، وسلم نفسه للقوات البريطانية بعد مقاومة باسلة وصفها (وزير إعلامه) الشاعر خميس كندي، وصفا رائعا بشعره الشعبي حين قال:

ردوش يا الغرفة كما برلين

مستر جرامس هو وشمبرلين

بن صالح مبارك لقالش رسم

عاند بش قرانه

هم قايسوش العبر

من ضرب القنابل باتودين.

ومنذ منتصف القرن الماضي احتضنت الغرفة نشاطا سياسيا وثقافيا قاده آل باعباد وآل باجمال وآل الجرو وعدد من مثقفي وادي حضرموت مثل عمر السقاف (الكاتلي). وكانت الغرفة حينها مقرا لحركة شباب الشنافر، ونادي الشباب الذي قام بدور مهم في مقاومة بريطانيا في حضرموت.

ومنذ نشأتها وحتى اليوم شيدت في الغرفة كثير من الحصون والأسوار، لكن جزء كبير من تلك المعالم الطينية تهدم بفعل الأمطار والسيول، وتهدم جزء آخر منها بقصف الطائرات والدبابات البريطانية خلال ثورة ابن عبدات.

من أشهر معالم الغرفة التي لا تزال صامدة: مسجد الجامع وهو عبارة عن مسجدين أحدهما لآل باجمال والآخر لآل باعباد ويرجع تاريخه إلى عام 834هـ.

ولا تزال قائمة خرائب (قصر دولة بن عبدات) وحصون ( ديار آل عبود) المطلة على المدينة من جهة الجنوب. وكذلك أطلال قلاع آل فاس وديارهم الحديثة.