بعيداً عن ضجيج بعض قادة الحوثي من الصف الثالث بخصوص السعودية، فإن الجهد العملي للحوثيين يتركز حالياً في مسار آخر، عبر الاستعداد لجولة مواجهة قادمة وقريبة مع إسرائيل في إحدى ثلاث ساحات أساسية محتملة.
الساحة الأولى، توقعات المحور شنّ إسرائيل جولة هجومية جديدة وقاسية ضد حزب الله في لبنان، وسيكون على الحوثي التدخل لإسناد الحزب وقد ألمح لذلك مؤخراً. والثانية، الاستعداد لضربة إسرائيلية حتمية وقريبة ضد الجماعة. والثالثة، احتمالية التدخل بشأن تعثّر الانتقال للمرحلة الثانية وانهيار اتفاق غزة وهو أمر ظل الحوثي يؤكد عليه منذ وقف اطلاق النار.
والأهم، أن الحوثي حالياً يواجه أزمة في الخيارات والأولويات، وتحديات داخلية ضاغطة، ومشهداً إقليمياً مُركباً لا يتيح له الكثير، خاصة بعد مؤشرات عن تحوّل في بعض مقاربات طهران تجاه دول الإقليم وميلها إلى التهدئة مع الخليج والسعودية تحديداً، وهو شيء معاكس لرغبة الحوثي في التلويح المستمر بالحرب أو خوضها.
يرغب عبدالملك في أشياء كثيرة، منها خوض حرب داخلية أو مع السعودية -مع أنه مستمر في الإعداد لذلك- لكنه لا يستطيعها في الوقت الحالي، لأن الثمن سيكون هائلاً ومدوياً وليس مجرد ضربات جوية لطائرات قادمة من بعيد أو من على متن بارجات قلقة في البحار.
ومع توقف حرب غزة، وجد الحوثي نفسه وجهاً لوجه أمام نتائج قراراته في العام الأخير تحديداً، بعد مقتل نصر الله، الذي لطالما كان ضابط إيقاع الجماعة في الشأن الخارجي والمحور بشكل عام، بما كان يتمتع به من مهارة وخبرة وفهم للسياقات الإقليمية.
بمقتل نصر الله فقد عبدالملك قائده ومرشده الخاص، الذي كان يأوي إليه عبر قنوات مباشرة وغير مباشرة، يستمع اليه، ثم يعود إلى أصحابه بقرار وتوجيه محدد، لم يعتد كثيراً نقاش مساعديه ولا استشارتهم في أمور كهذه، ولا هم يملكون جملة مفيدة سوى التسليم المطلق الذي اعتادوا عليه لـ"السيد العلَم".
أيضاً، خبراء الحرس الثوري والحزب الذين يتواجدون كـ "معاونين جهاديين" للحوثي لا يملؤون هذا الفراغ الاستراتيجي وهم بالأساس امتداد وانعكاس للارتباك الموجود في طهران وهرم الحرس الثوري والمحور بشكل عام، وبحسب معلومات من مصادر متعددة، اضطر الايرانيون، لإعادة القيادي البارز عبدالرضا شهلائي إلى صنعاء بعد أن كان الحرس الثوري قد استدعاه في وقت مبكر بعد 7 أكتوبر.
وعند مراجعة تصرفات الحوثي وعملياته ومواقفه العابرة للحدود بين 2018 و2024، نجد أن الجماعة كانت تتحرك في أوقات مناسبة وبأشكال مدروسة في أغلبها، وهو ما انعكس عليها بتحقيق تراكم وصعود ومكاسب أحياناً؛ كانت تعاير وتحسب متى تضرب ومتى تقبل التهدئة، عبر ترابط متناسق بين مسارات وتداخلات عديدة، وهو أمر بدا مختلفاً في العام الأخير، إذ اتسمت قرارات الحوثي بالارتباك، وأعلن لمرات عن خطوات ومراحل ثم تعثّر في تنفيذ ما أعلنه أو توعّد به، أو انعكست عليه بشكل سلبي، وامتدت تأثيراتها إلى الارتباك القائم اليوم.
مقتل سليماني في 2020 ترك فراغاً في الاستراتيجية العسكرية للمحور، لكن وجود نصر الله، الذي كان الضلع الثاني والعقل الاستراتيجي للمحور، عوّض غياب سليماني، بحيازته لتفويض من خامنئي، الذي كان يحيل قادة الحرس الثوري والخارجية الايرانية إلى ما يقرره نصر الله فيما يخص المنطقة العربية.
اليوم، يجد الحوثي نفسه فجأة في قمرة القيادة وحيداً بحكم الواقع. نعيم قاسم لا يملك القدرات والكاريزما الكافية لتغطية فراغ نصر الله خارج الجنوب اللبناني، فضلاً عن الساحة اللبنانية، ومثله، الشخصيات الإيرانية المتبقية في المشهد بعد حادث تحطّم طائرة رئيسي ووفاته مع وزير الخارجية أمير عبداللهيان، الوجه السياسي الشاب الذي صنعه سليماني على عينه ليؤهله لشؤون المنطقة وساحاتها بدرجة أولى، وتبع ذلك مقتل قادة الحرس الثوري في سوريا ولبنان أو في الهجوم الإسرائيلي على إيران في يونيو الماضي وما سُمّي بحرب الـ12 يوماً، وخاصة مقتل أمير علي حاجي زادة وحسين سلامي.
وبذلك لم يعد هناك قائد يمثل رمزية جامعة في المحور اليوم سوى الأب المؤسس (خامنئي) الذي يعيش في أواخر عقده التاسع، رغم أنه لم يتخلّ عن تغذية جموح أنصاره وأذرعه بتأصيل عنيد؛ ولكن للسن أحكامه.
مأزق عبدالملك الحوثي مضاعف، وكل خياراته حالياً مُكلفة، وضعه الداخلي صعب اقتصادياً وأمنيا وشعبياً، وبقية أذرع المحور منهكة، بما فيها الدماغ المركزي في طهران الذي يمضي في نسج مقاربات تُعيد البلاد من حافة الهاوية أكثر مما تزيدها انحداراً، وهو أمر يتعاكس مع صعود الحوثي وجموحه.
محاولة خامنئي الأخيرة لترميم هذا الفراغ كانت بتعيين علي لاريجاني أميناً عاماً لمجلس الأمن القومي لمحاولة ملء بعض الفراغات، رغم أنه استبعده قبل عام من السباق على منصب الرئيس، لكنه اضطر إليه لاستعادة ما أمكن من القيادة الإقليمية تحديداً، والعلاقة مع الحلفاء. ولذلك يتحرك لاريجاني بشكل نشط في المنطقة ويطلق تصريحات هادئة وتصالحية، خاصة تجاه السعودية، وهو مسلك يزيد من تعقيد المشهد لدى الحوثي ويُراكم أثقال الموقف وحساباته.
لطالما كان عبدالملك الحوثي جامحاً ومتلهفاً لدور كهذا (وقبل أيام ألقى خطاباً أمام مؤتمر القوميين العرب في أول حضور من هذا النوع لتقديمه الى حاضنة المحور الرديفة)، لكن مشكلة الحوثي أن نقطة قوته فيما يفعله لا فيما يفكر به أو يقوله بعكس نصر الله، خاصة فيما يتعلق بما هو أبعد من الحالة اليمنية، الحوثي يملك الجرأة والمغامرة لكنه يفتقر للدهاء والتجربة الاقليمية، وهو مكبّل بالعزلة التي فرضها على نفسه وفرضها صعوده المتأخر، ولم يُحالفه الحظ ولا الجغرافيا في الاحتراف بساحات المحور في دول عربية أخرى كما كان نصر الله وسليماني.
مأزق عبدالملك الحوثي مضاعف، وكل خياراته حالياً مُكلفة، وضعه الداخلي صعب اقتصادياً وأمنيا وشعبياً، وبقية أذرع المحور منهكة، بما فيها الدماغ المركزي في طهران الذي يمضي في نسج مقاربات تُعيد البلاد من حافة الهاوية أكثر مما تزيدها انحداراً، وهو أمر يتعاكس مع صعود الحوثي وجموحه.
وبالعودة للبداية، فكلما زاد مستوى انفلات نشطاء الجماعة بالحديث عن الحرب كمهرب من ضغط الشارع، يظهر بيان لمحمد عبدالسلام أو خارجية الجماعة للدفع نحو مسار "خارطة الطريق"؛ ومع أن ذلك لا يعني قناعة حوثية بالسلام، فهي جماعة خلقت للحرب ولا تجد نفسها في غيرها، إلا أنها اليوم في ظل وضع معقد قد تمثل الخطوة التكتيكية المؤقتة والأقل كلفة، الى حين جلاء الموقف المضطرب في المنطقة.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news