يمن إيكو|قصة اقتصاد:
لم يعد الغاز الطبيعي مجرد وقود لتدفئة المنازل في الشتاءات القارسة، أو تشغيل محطات الكهرباء، بل أصبح في قلب النشاط الاقتصادي العالمي، وركيزة أساسية للصناعة والطاقة والنقل، بل تحوّل الغاز إلى عنصر استراتيجي يوازن بين متطلبات النمو الاقتصادي وتحديات الاستدامة البيئية، ليغدو “الوقود الانتقالي” الأبرز في عصر الطاقة الحديثة، فكيف بدأت قصته؟ وما عوامل بقائه كمصدر للطاقة؟.
بدأت قصة الغاز الطبيعي في بدايات القرن العشرين حين كان يُعد منتجاً ثانوياً غير ذي قيمة يُحرق أثناء استخراج النفط، قبل أن تتغير النظرة إليه تدريجياً مع اكتشاف إمكاناته الحرارية العالية ونظافته النسبية مقارنة بالفحم والنفط.
ومع تقدم تقنيات النقل والتخزين، تحول الغاز من عبء على الحقول النفطية إلى سلعة استراتيجية متنامية الطلب، تتأثر قيمتها العالمية بالأزمات الجيوسياسية والتطورات الاقتصادية المتسارعة باتجاه الصناعة، والتحولات المناخية والطقسية عبر فصول السنة.
وفي خمسينيات القرن الماضي، دشنت أوروبا والولايات المتحدة أولى شبكات نقل الغاز عبر الأنابيب لمسافات طويلة، مما فتح الباب أمام قيام صناعة عالمية للطاقة.
ومع اكتشاف حقل “غرونينغن” في هولندا عام 1959، تكرّس الغاز كمصدر رئيس للكهرباء والتدفئة في القارة العجوز (أوروبا)، أما في الشرق الأوسط، فقد شكّل اكتشاف حقل الشمال في قطر بداية لحقبة جديدة من تجارة الغاز المسال.
وفي سبعينيات القرن الماضي، شهدت أسواق الغاز نقطة تحول مفصلية مع ارتفاع أسعار النفط وتزايد الاهتمام بالغاز كبديل اقتصادي أكثر استقراراً. فأنشأت الدول المنتجة بنى تحتية متقدمة للأنابيب والتسييل والتصدير، وبدأت اليابان وكوريا الجنوبية باستيراد الغاز المسال بكميات ضخمة، ما وضع آسيا على خريطة الطاقة العالمية.
وفي تسعينيات القرن الماضي، برزت روسيا كلاعب محوري بفضل شبكة “غازبروم” العملاقة التي ربطت الحقول السيبيرية بالأسواق الأوروبية، بينما واصلت الجزائر ونيجيريا وقطر توسيع صادراتها، مستفيدة من ارتفاع الطلب الصناعي العالمي على الطاقة النظيفة نسبياً.
ومع مطلع الألفية الجديدة، جاء التحول الأكثر أهمية، حين فجّرت الولايات المتحدة ثورة الغاز الصخري بفضل تقنيات التكسير الهيدروليكي، لتتحول من مستورد إلى أكبر منتج ومصدر في العالم. هذا التحول أعاد رسم خريطة التجارة العالمية للطاقة، ودفع بالأسعار إلى التذبذب بفعل التغيرات في العرض والطلب.
وبالتوازي مع ذلك، توسعت صناعة الغاز المسال “LNG” لتشكل العمود الفقري لتجارة الطاقة الحديثة. فبفضل تقنيات التبريد الفائق إلى 162 درجة تحت الصفر، أصبح بالإمكان نقل الغاز بحراً إلى أي سوق في العالم، ما عزز مرونة الإمدادات وكسر احتكار الأنابيب البرية، وبروز أهمية امتلاك الدول لمخزونات تراكمية من الغاز المسال.
وفي العقدين الأخيرين، برزت مراكز تخزين الغاز تحت الأرض كعنصر حاسم في استقرار السوق، إذ تستحوذ الولايات المتحدة وروسيا وأوكرانيا وألمانيا والصين على أكثر من 80% من السعة التخزينية العالمية، مما يتيح مواجهة ذروات الطلب وتخفيف آثار الأزمات الطاقوية، كما حدث في أوروبا خلال أزمة الإمدادات الروسية عام 2022.
اليوم، يشكل الغاز الطبيعي نحو ربع إجمالي استهلاك الطاقة العالمي، ويُستخدم لتوليد الكهرباء، وتشغيل المصانع، وتحريك السفن والمركبات، وتوفير الوقود لعمليات البتروكيماويات.
تعدد الاستخدامات الحياتية للغاز الطبيعي المسال، حوله إلى واحدٍ من أهم مصادر الإيرادات للدول المنتجة، وأرضية صلبة لاقتصادها، كما هو حاصل في قطر وروسيا والولايات المتحدة وإيران.
ومع ذلك، فموقع الغاز كوقود انتقالي لا يخلو من التحديات، فالتقلبات السعرية، وتكلفة النقل العالية، والضغوط البيئية المتعلقة بالانبعاثات، تمثل عقبات أمام استدامة نموه.
ومع تسارع التحول العالمي نحو الطاقة المتجددة، يواجه الغاز اختباراً مزدوجاً: الحفاظ على موقعه الحيوي بدون الإضرار بأهداف الحياد الكربوني، لكن تنامى الاستثمارات في الهيدروجين الأزرق المعتمد على الغاز الطبيعي، منحه دوراً تكاملياً في منظومة الاقتصاد الأخضر، الأمر الذي جعل الغاز مرشحاً لأن يظل “وقود الجسر” بين الماضي القائم على الوقود الأحفوري والمستقبل الموعود بالطاقة النظيفة.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news