تحظى مصر بمكانة خاصة في قلب كل يمني، وفي قلبي لها منزلة رفيعة لا تضاهيها أخرى. وأعترف هنا أنني كلما سُئلت: إلى أين ستكون وجهتك إن سُنحت لك فرصة السفر؟ أجيب دون تردد: إلى القاهرة.
فمصر واليمن صنوان للحضارة الإنسانية، تربطهما جذور ضاربة في عمق التاريخ، وتجمعهما ملامح العراقة وروح الإبداع، وإنسانية متجذرة في الوعي العربي.
بدأت العلاقة بين اليمن ومصر منذ تهدم سد مأرب القديم، حين انتقلت قبائل يمنية إلى السواحل الأفريقية ومنها إلى وادي النيل، فتعمّقت تلك الصلات الحضارية عبر تبادل عناصر التراث والثقافة. وقد عُرف اليمنيون منذ القدم بتجارة البخور والمرّ واللبان، حتى سُميت بلادهم بـ”أرض الآلهة” لتصديرها الطيوب إلى معابد الآلهة المصرية القديمة.
وتؤكد المكتشفات الأثرية في المتاحف اليمنية والمصرية عمق هذا التواصل التاريخي، من أبرزها مكتشفات جبل العود في اليمن، وتابوت التاجر اليمني “زيد أيل بن زيد” الذي جلب البخور إلى معابد مصر ودفن بالقرب من هرم سقارة تكريمًا له.
ولم يقف التفاعل بين البلدين عند حدود التجارة والتبادل المادي، بل امتد إلى الموروث القصصي والأسطوري، حيث تشترك مصر واليمن في العديد من السير الشعبية مثل سيرة “سيف بن ذي يزن”، وأسطورة “الملاح الغريق” التي توثّق الرحلات المصرية القديمة إلى اليمن. كما تجسّد جداريات الملكة حتشبسوت هذا التداخل الحضاري العميق، بتصويرها ملوك “بلاد بونت” بملامح وزي يمني، كدليل بصري على تواصل إنساني وحضاري عابر للعصور.
وازدهر هذا التفاعل في العصور الإسلامية، خصوصًا في العهدين الفاطمي والأيوبي، حين توحّد الأفق السياسي والثقافي بين البلدين، واستمر تأثير مصر الفكري والفني في اليمن، كما تأثر الوجدان المصري بروح الحضارة اليمنية الضاربة في القدم.
لذلك، لا عجب أن تحتل مصر مكانة عميقة في القلب، عبقة بالتاريخ والأصالة. وكيف لنا أن ننسى نحن اليمنيين دورها العظيم في ثورتي سبتمبر وأكتوبر المجيدتين، حين امتزج الدم اليمني بالمصري على دروب الحرية والكرامة؟ نعم، إنها مصر التي نحب، مصر التي كانت وستظل نبض الأمة وملهمة نهضتها.
اليوم، ها أنا في صنعاء أحتفل من بعيد بافتتاح “المتحف المصري الكبير”، هذا العرس الثقافي الذي يحتضن كنوز الحضارة المصرية العريقة، ويجمع بين عبقرية المصري القديم وإبداع المصري المعاصر؛ كمعلم حضاري يلتف حوله كل محب للحضارة والمعرفة، ويفخر به كل مؤمن بوحدة الإنسانية وقيم السلام والمحبة والتعاون بين الشعوب.
أحتفل كما يحتفل الكثير من اليمنيين بهذا الصرح الثقافي الذي يعكس عبقرية الإنسان المصري، ويعيد إحياء أعظم حضارة عرفتها الإنسانية في ثوبٍ معاصر يجمع بين الأصالة والحداثة.
فلا يسعني في هذا المقام إلا أن أبارك لنا نحن اليمنيين هذا الشعور الدافئ بالعراقة المشتركة والمحبة التي لا يغيّرها الزمن، قبل أن أبارك لمصر وهي تؤكد للعالم اليوم أن الحضارة التي صنعت التاريخ ما زالت تصنع المستقبل.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news