الاجتماعات الافتراضية.. مرآة العجز السياسي وغياب الدولة في اليمن
قبل 45 دقيقة
يبدو أن ظاهرة “الاجتماعات الافتراضية”، التي باتت السمة الأبرز لأداء مجلس القيادة الرئاسي والبرلمان والحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، لم تعد مجرد تدبير مؤقت فرضته الظروف الأمنية أو اللوجستية، بل تحوّلت إلى نمط حكم مريض يعكس عمق الأزمة الوطنية وانفصال السلطة عن واقعها.
لقد أصبحت الشاشات والاتصالات المرئية بديلاً عن الحضور الميداني، حتى غدا المشهد اليمني أقرب إلى كوميديا سياسية سوداء تُدار من فنادق الخارج، بينما تتآكل الدولة في الداخل.
بعد أكثر من أحد عشر عاماً على انقلاب مليشيا الحوثي وإسقاط العاصمة صنعاء، ما تزال القيادة الشرعية تعيش في عزلة مكانية وزمانية عن الشعب الذي تزعم تمثيله، فيما البلاد تتداعى تحت وطأة الفوضى الاقتصادية والفساد وانعدام الخدمات، بينما يعقد مجلس القيادة والحكومة اجتماعاتهما الافتراضية بوجوه جامدة وشعارات مكرّرة، لا تحمل سوى وعود خاوية وقرارات لا تغادر ملفات البريد الإلكتروني.
هذه الاجتماعات، التي تُبث من عواصم الشتات، لم تعد – في نظر الشارع اليمني – سوى استعراض باهت للعجز والغياب، وليست شكلاً من أشكال الإدارة الحديثة كما يحاول البعض تبريرها.
لقد أصبح الانفصال بين مركز القرار السياسي والواقع الميداني فاضحاً إلى حد الفضيحة. فالمواطن في عدن وتعز وحضرموت والمهرة، وغيرها من المحافظات المحررة، يواجه يومياً أزمات الكهرباء والماء والرواتب والأمن، بينما تُدار الدولة من غرفٍ مكيفة في الرياض أو القاهرة أو عمّان.
في ظل هذا المشهد العبثي، كيف يمكن لحكومة أن تدّعي الشرعية وهي لا تمتلك جرأة العودة إلى أرضها؟ وكيف لبرلمان أن يناقش قضايا الشعب من وراء الشاشات، بينما لا يسمع أنين الفقراء ولا يرى وجوههم؟
يرى مراقبون أن استمرار هذا النمط من الإدارة عن بُعد يعكس أزمة بنيوية عميقة داخل مؤسسات الشرعية نفسها. فهي ليست أزمة وسائل اتصال، بل أزمة إرادة وقيادة؛ أزمة سلطة فقدت ثقتها بنفسها وبقدرتها على الفعل. لم تعد تلك المؤسسات التي وُجدت لتكون رافعة لمشروع استعادة الدولة قادرة على حمل هذا الطموح، إذ تحوّلت مع مرور الوقت إلى رمز للارتهان السياسي والإداري للخارج. هناك، في العواصم البعيدة، يُصاغ القرار الوطني، وهناك أيضاً يُدفن قبل أن يرى النور.
ويؤكد إعلاميون وناشطون أن الاجتماعات المتكررة لقيادة البلاد في الخارج لا تثمر شيئاً يُذكر، لا على الصعيد الاقتصادي ولا في الجانبين الأمني والسياسي، إذ باتت في نظر الشارع مجرد طقوس شكلية لإثبات الحضور وتبرير النفقات أكثر منها محاولات جادة لإدارة دولة أو معالجة أزمات. إنها عروض إدارية خاوية تُبث على الشاشات دون أثرٍ في الواقع.
لقد غدت شاشة الاتصال، التي كان يُفترض أن تقرّب المسافات، قناعاً يخفي خواء الدولة وتآكل مؤسساتها. ومع مرور الوقت، بدأ المواطن اليمني ينظر إلى “القيادة الشرعية” ككيانٍ غريب عنه؛ سلطة في المنفى تتحدث باسمه دون أن تلامس معاناته. فقد تآكلت الثقة بين الشعب والدولة، واتسعت الهوة بين الخطاب الرسمي وواقع الناس حتى بلغت حد القطيعة. إذ لا يمكن لمن يعيش بعيداً عن الأرض أن يحكمها، ولا لمن لا يسمع أنين الجياع أن يتحدث باسمهم.
إن ما يعيشه اليمن ،اليوم، ليس مجرد فشل سياسي، بل تحلل في معنى الدولة ذاتها. لقد ترسّخ في وعي السلطة أن الحكم يمكن أن يُمارس عبر تقنية الاتصال المرئي “الزوم”، وأن القرارات يمكن أن تُرسل عبر البريد الإلكتروني دون حاجة إلى وجود فعلي في الميدان.
وهنا تكمن الكارثة الكبرى: فقد وُلدت ثقافة سياسية مشوّهة قوامها “الإدارة من المنفى” بدلاً من “القيادة من الداخل”، وثقافة استسلام تبرر الغياب باسم الظروف وتشرعن العجز باسم الواقعية.
فالدولة – في معناها الجوهري – ليست بيانات تُصدر ولا اجتماعات تُبث، بل حضور فعلي على الأرض ومسؤولية مباشرة. الحكومة التي لا تعيش بين مواطنيها لا يمكن أن تحكمهم، والبرلمان الذي لا يسمع نبض الشارع لا يشرّع له. إن ممارسة السلطة من الخارج ليست سوى وهم سياسي يخفي وراءه فراغاً مريعاً في القيادة.
في المحصّلة، لم تعد الاجتماعات الافتراضية مجرد انعكاس للتطور التكنولوجي، بل رمزاً صارخاً لفشل القيادة في استعادة الدولة، وصورة حية لسلطة فقدت معناها قبل أن تفقد مكانها. إنها تجسيد لأزمة وجود لا أزمة تواصل، ولسلطة تبحث عن حضورٍ رمزي في الفضاء الإلكتروني بينما يتلاشى حضورها الحقيقي على الأرض.
لقد آن الأوان أن يُقال بصراحة:
اليمن لا يحتاج إلى شرعية على الإنترنت، بل إلى شرعية على الأرض.
لا يحتاج إلى صورٍ على الشاشات، بل إلى قرارات تُنفّذ.
ولا إلى بيانات رسمية، بل إلى فعلٍ واقعي يعيد للدولة كرامتها وهيبتها.
فالتاريخ لا يرحم القادة الذين حكموا من وراء الشاشات بينما احترقت أوطانهم أمام أعينهم.
  
  تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية  عبر  Google news