اليمن في سلم اهتمامات الرئيس ترامب؟

منذ وصول الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، تَركّزت أولويات السياسة الخارجية الأمريكية حول ملفاتٍ كبرى تمس الأمن القومي الأمريكي بصورة مباشرة، مثل التنافس مع الصين وروسيا، وأمن الحدود، وملف إيران النووي، والعلاقات مع إسرائيل، في حين ظلّ الملف اليمني في موقعٍ متراجع ضمن أجندة واشنطن، رغم كونه جزءًا حيويًا من معادلة الأمن الإقليمي في الخليج العربي والبحر الأحمر.

يرى معهد الشرق الأوسط في واشنطن أن اليمن تمثل إحدى أضعف الحلقات في إدارة ترامب الجديدة، ليس فقط بسبب تجاهلها في الخطاب السياسي الأمريكي، بل لأن الإدارة تنظر إلى الحرب اليمنية من زاويةٍ فرعية مرتبطة بالملف الإيراني لا كأزمةٍ مستقلةٍ تستحق اهتمامًا مباشرًا، ومع ذلك فإن تصريحات وزير الدفاع الأمريكي حول "ضرورة فرض السلام في الشرق الأوسط بالقوة" تعكس توجهًا لربط ملفات المنطقة، ومنها اليمن، ضمن إطارٍ أمنيّ أشمل تُعاد صياغته بعد فشل سياسات الانكفاء التي اتبعتها إدارة بايدن السابقة.

تتعامل واشنطن مع الأخطار الحوثية في ضوء ما تعتبره إعادة تموضع استراتيجي لإيران وأذرعها في المنطقة، فالحوثيون لم يعودوا مجرد حركةٍ محلية، بل أصبحوا ضمن المنظومة الإيرانية العابرة للحدود التي تشمل حزب الله في لبنان، والميليشيات الولائية في العراق، والحوثيين في اليمن الذين يشكلون رأس الحربة في تهديد الملاحة الدولية في البحر الأحمر وباب المندب، وهي منطقة ترتبط مباشرة بالأمن القومي الأمريكي وبالمصالح الحيوية لشركاء واشنطن الخليجيين.

وفي سياقٍ متصل، تتزامن التطورات في الملف اليمني مع مؤشراتٍ متقدمة في المفاوضات الأمريكية-الصينية الجارية، حيث تتحدث مصادر دبلوماسية عن قرب اتفاق بين واشنطن وبكين قد يُعلن عنه في الاجتماع المرتقب بعد غدٍ في كوريا بين الرئيسين ترامب وشي جين بينغ، وهو لقاء يُنتظر أن يُرسي تفاهماتٍ استراتيجية تتجاوز الاقتصاد إلى ترتيبات الأمن البحري العالمي، بما في ذلك مناطق النفوذ في بحر الصين الجنوبي والمحيط الهندي، ما سينعكس بدوره على التوازنات في البحر الأحمر وخليج عدن، إذ تسعى واشنطن إلى تحجيم أي تمدد صيني-إيراني مشترك في ممرات التجارة الدولية، وإعادة بسط نفوذها البحري عبر تحالفٍ متعدد الأطراف يتولى مواجهة النشاط الإيراني والحوثي في هذه المناطق الحيوية، بما يربط الملف اليمني بمستقبل الأمن البحري الدولي وممرات الطاقة العالمية.

وفي مقابل هذا التقارب الأمريكي-الصيني النسبي، يبرز الموقف الأوروبي بقدرٍ من الحذر، إذ تنظر العواصم الأوروبية الكبرى إلى أي تفاهم استراتيجي بين واشنطن وبكين بوصفه تحوّلًا قد يضعف الدور الأوروبي في مناطق النفوذ البحرية، خصوصًا في البحر الأحمر والقرن الإفريقي، حيث تمتلك فرنسا وإيطاليا قواعد عسكرية ومصالح اقتصادية كبرى. ولهذا فإن الاتحاد الأوروبي يسعى إلى صياغة موقفٍ موازن يحافظ على انخراطه في التحالفات البحرية عبر بعثاته الأمنية في خليج عدن، مع دعمٍ دبلوماسي للجهود الأمريكية في مواجهة النفوذ الإيراني دون الاندماج الكامل في الاستراتيجية الأمريكية، ما يعكس ميلًا أوروبيًا لإبقاء مسافة تكتيكية من واشنطن تحسبًا لأي تغير في أولويات إدارة ترامب مستقبلاً.

في ضوء ذلك، يمكن القول إن واشنطن باتت تنظر إلى الملف اليمني من زاويةٍ مزدوجة:

الأولى أمنية تتعلق بحماية خطوط الملاحة والتحالفات العسكرية في البحر الأحمر، والثانية سياسية ترتبط بمواجهة النفوذ الإيراني ومحاولة إعادة بناء تحالفٍ إقليميٍّ قادر على موازنة القوة في الشرق الأوسط. غير أن هذه المقاربة تظل حتى الآن نظريةً أكثر منها عملية، إذ لم تُترجم إلى خطواتٍ تنفيذية واضحة تعيد لليمن موقعه في استراتيجية الولايات المتحدة، خصوصًا في ظل تشتت القرار الأمريكي بين أجنحة متباينة داخل الإدارة.

إن استبعاد اليمن من دائرة الاهتمام الأمريكي المباشر لا يعني غياب الوعي بأهميته، بل هو انعكاس لأولوياتٍ متحركة تحددها واشنطن وفق حجم التهديدات، فبينما تحظى إسرائيل وأمن الخليج العربي بأولويةٍ قصوى، تظل اليمن في الهامش إلى أن يتحول خطر الحوثيين إلى تهديدٍ فعليٍّ للمصالح الأمريكية أو الإسرائيلية، وهو ما بدأ يتجسد تدريجيًا عبر استهداف السفن في البحر الأحمر والتهديدات الحوثية المتكررة للسعودية والإمارات.

التحول الأبرز في نهج إدارة ترامب قد يتمثل في العودة إلى سياسة الردع المباشر واستخدام القوة الصلبة بدل الدبلوماسية المائعة، وهي سياسة قد تشمل دعمًا أكبر للتحالف العربي، وتوسيع التنسيق العسكري في البحر الأحمر، وربما إعادة تصنيف الحوثيين كمنظمة إرهابية إذا ما استمرت تهديداتهم لممرات التجارة الدولية، وهو قرار من شأنه إعادة ترتيب الموقف الإقليمي برمّته ودفع الحوثيين نحو عزلةٍ سياسيةٍ ودبلوماسيةٍ خانقة.

إن مستقبل اليمن في سلم أولويات ترامب سيتحدد بقدرته على إدماج الملف اليمني ضمن مشروع الأمن الإقليمي الجديد الذي تسعى واشنطن لإرسائه في مواجهة إيران، وكلما ازداد النشاط الحوثي العدائي تجاه الملاحة والسعودية والإمارات، كلما صعدت اليمن في سلم تلك الأولويات، لتتحول من ساحةٍ منسية إلى ساحةٍ مركزية في الصراع القادم على النفوذ في الخليج العربي والبحر الأحمر.

وفي السياق اليمني الداخلي، يُتوقع أن تنعكس هذه التحولات العالمية على بنية التحالفات داخل مجلس القيادة الرئاسي، إذ ستفرض التغيرات في الموقف الأمريكي والإقليمي إعادة تموضع للقوى اليمنية وفقًا لاتجاهات الدعم الخارجي ومستوى الانخراط في مواجهة النفوذ الإيراني، فالقوى الأقرب إلى الموقف الخليجي والأمريكي ستكسب زخمًا سياسيًا وعسكريًا أكبر، بينما ستتراجع القوى التي تراهن على التسويات الهشة أو تتجنب المواجهة مع الحوثيين، ما قد يؤدي إلى إعادة صياغة أولويات المجلس نفسه وتغيير موازين القرار داخله، بما يجعل من التطورات الدولية عاملًا حاسمًا في تحديد مستقبل الشرعية اليمنية ومسار الصراع خلال المرحلة المقبلة.

أ.د.عبدالوهاب العوج

أكاديمي ومحلل سياسي

جامعة تعز