يمن إيكو|قصة اقتصاد:
من شرفات التاريخ القديم، تتلألأ مدينة شبام حضرموت كجوهرة من صلصالٍ نادر، ترتفع من واديها الخصيب إلى سماء المجد العمراني، لتغدو تحفة معمارية تُدهش الناظر وتُغري الرحّالة والباحثين الطامحين لدراسة الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية للهندسة المعمارية في هذه المدينة اليمنية التي أدرجتها اليونسكو عام 1982 ضمن قائمة التراث الإنساني العالمي.
ومنذ أن خطّ الملك شبام بن حضرموت بن سبأ معمارها الأول في القرن الثاني عشر قبل الميلاد، تماهت شبام حضرموت مع عبقرية الإنسان وأبدية المكان، فغدت درساً خالداً في هندسة الاستدامة قبل أن تُعرف بهذا الاسم، إذ جمعت بين الطين كعنصر بناءٍ وحياة، وبين التخطيط كوعيٍ اقتصاديٍ ومجتمعيٍ مبكر.
مركز حكم وتحكُّم تجاري
كانت مركزاً لحكمٍ وتجاراتٍ تربط الهند بجزيرة العرب وبلاد الشام، وحاضرةً صاغت من عمارتها العمودية فلسفة النهوض من الأرض إلى السماء، حتى لُقبت لاحقاً بـ”منهاتن الصحراء”، ورمزاً لجمالٍ يصمد أمام الزمن، وازدهارٍ يتكئ على البساطة والعبقرية معاً.
وفي العصر الإسلامي، ازدهرت شبام عمراناً واقتصاداً وثقافة، فاتخذها زياد بن لبيد الأنصاري مقراً لإدارة شؤون حضرموت، وفي القرن السادس الهجري شهدت نهضة معمارية فريدة أعادت رسم ملامحها الراهنة، حين اتجه البناؤون نحو التوسع العمودي لمواجهة ضيق الرقعة الأفقية، لتصبح البيوت الطينية الشاهقة التي تصل إلى تسعة طوابق، شاهداً على عبقرية التخطيط الهندسي والوعي البيئي في آنٍ واحد.
وفي القرون اللاحقة، أبهرت شبام الرحّالة والمستشرقين، فكتب عنها الألماني هانز هولفريتز والرحالة البريطانية فريا ستارك التي منحتها لقب “منهاتن الصحراء”، دهشةً بذاك التناغم المذهل بين الطين والضوء، حيث تمتد القصور الطينية كأصابعٍ من نورٍ تتحدى الزمن في قلب الصحراء.
هندسة المجتمع الاقتصادي
اقتصادياً واجتماعياً، قامت هندسة المدينة على معايير دقيقة تجمع بين الحاجة والمعرفة، إذ راعى المعماريون القدماء طبيعة المناخ ومحدودية المساحة، فجعلوا من الارتفاع حلاً عملياً لتوفير المساكن وتنظيم حركة المجتمع.
وكانت الطبقات السفلية مخصصة للأنشطة التجارية والمخازن، فيما خُصصت الطوابق العليا للسكن العائلي، ما يعكس وعياً عمرانياً متقدماً وروحاً اجتماعية متماسكة.
وجسدت المدينة نموذجاً اقتصادياً متيناً في إدارتها للموارد المحلية، فاعتمدت على الطين، والتِّبْن، والحجر، والخشب، في البناء، بأساليب تضمن العزل الحراري وتقاوم الفيضانات.
معماريون بالسليقة
وامتلك البناؤون اليمنيون في حضرموت خبرة فطرية متوارثة مكّنتهم من ابتكار أنظمة تصريف مائية وسدود، أشهرها سد الموزّع الذي شُيّد منذ القرن العاشر الهجري لحماية المدينة وتنظيم الري الزراعي.
ولم تقتصر شهرة شبام على عبقرية معمارها، بل امتدت إلى دورها الثقافي والتجاري، إذ كانت محطةً رئيسة في طريق القوافل التجارية، ومركزاً لتصدير اللبان والتمور والحبوب، ما جعلها عاصمة اقتصادية لوادي حضرموت لقرونٍ طويلة، ومهوى للعلماء والحرفيين والتجار من أنحاء الجزيرة العربية.
ومنذ إدراجها في قائمة التراث الإنساني، تواصلت الجهود الدولية للحفاظ على معمارها الفريد، فحصلت المدينة عام 2007 على جائزة الآغا خان الدولية للعمارة، تقديراً لتوازنها المعماري بين البساطة والفخامة، كما نُفذت مشروعات للترميم والصيانة بتمويل من الاتحاد الأوروبي واليونسكو للحفاظ على هوية المدينة وإرثها الطيني المتفرّد.
جهود ترميمية وتحديات كبيرة
ورغم ذلك، لا تزال المدينة تواجه اليوم تحدياتٍ متصاعدة تهدد بقاءها، أبرزها الفيضانات والسيول التي تفتك بجدرانها الطينية، وانهيار أجزاء من سورها التاريخي، إضافة إلى تراجع الدعم المالي والفني، وتوقف مشاريع الترميم، ما جعلها منذ عام 2015 ضمن قائمة المدن التراثية المهددة بالخطر.
ورغم قسوة الظروف وتداعيات الحرب في اليمن، لا تزال شبام تقاوم بصمتٍ مهيب، مستندةً إلى وعي أهلها، وإلى جهد الهيئات المحلية ومنظمات المجتمع المدني التي تسعى، بجهود محدودة، إلى ترميم ما تهدم، وصون ما تبقّى، من المدينة التاريخية التي وُلِدت من الطين، لكنها ارتقت بروح الإنسان إلى أعلى مراتب الاستدامة والبقاء.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news