في ظل استمرار الانقسام السياسي وتعدد مراكز النفوذ، يشهد ملف المخدرات في اليمن تصاعدًا لافتًا، مما يشير إلى تحول البلاد من “محطّة عبور” إلى مركز إنتاج وسوق استهلاكي مفتوح أمام شبكات المافيا العابرة للحدود.
خلال الأسابيع الأخيرة، برزت مؤشرات نوعية على تصاعد هذا الخطر، إذ أصدرت المحكمة الجزائية المتخصصة بمحافظة حضرموت، لأوّل مرّة، حكمًا بالإعدام تعزيرًا بحق ستة مهربين إيرانيين أُدينوا بتهريب ثلاثة أطنان من المخدرات إلى اليمن.
بالتوازي، أعلنت قوات خفر السواحل ضبط سفينة محمّلة بكميات كبيرة من مادة “الشبو” في بحر العرب، وعلى متنها طاقم يضم إيرانيين وباكستانيين. وقبلها بأيام، كشفت الأجهزة الأمنية عن تفكيك شبكة مخدرات منظّمة في حضرموت، كانت تستهدف طالبات المدارس والجامعات، مستخدمة تقنيات اتصال مشفرة وأساليب تمويه احترافية.
ومطلع سبتمبر/أيلول الماضي، كانت الأجهزة الأمنية بمحافظة المهرة، قد أعلنت إحباط محاولة لإنشاء مصنع لإنتاج حبوب الكبتاجون، في مؤشر على أن هذا النشاط تجاوز مسألة التهريب والتوزيع إلى التصنيع المحلي، في حين أن كل الاتهامات في كل عمليات الضبط توجه إلى الحوثيين وإيران.
في هذا التقرير، يناقش “بران برس” مع باحثين وخبراء أمنيين وسياسيين أبعاد هذه التطورات وعلاقتها بالأجندات الإيرانية، خصوصًا مع خسارة نفوذها في سوريا ولبنان. كما يستعرض المخاطر المحتملة على الأمن اليمني والإقليمي، وسبل مواجهة هذا التهدد المتصاعد.
إعادة تموضع
المدير التنفيذي لمركز البحر الأحمر للدراسات السياسية والأمنية، الدكتور ذياب الدباء، يرى أن تزايد عمليات تهريب المخدرات إلى اليمن يعكس محاولة إيرانية لإعادة تموضع مافيا المخدرات بعد خسائرها في سوريا ولبنان.
وأوضح "الدباء" لـ“بران برس”، أن “إيران تسعى إلى بناء منظومات تصنيع وتوزيع جديدة داخل اليمن بعد تفكيك خطوط التهريب في سوريا وتراجع نفوذها هناك، مستغلة الثغرات الأمنية والسواحل الواسعة، خصوصاً في الشرق”.
ووفقًا للدكتور الدباء، فإن “ضبط معمل لإنتاج المخدرات شرق اليمن مؤخرًا يؤكد صحة التقارير حول محاولات نقل الخبرات والمعامل من الشام إلى اليمن”.
استراتيجية الفوضى
مدير مركز الإعلام الأمني بوزارة الداخلية، النقيب هيثم الجرادي، قال إن النظام الإيراني صعّد منذ نهاية العام الماضي نشاط التهريب كمًّا ونوعًا، وعمد إلى “تزويد الحوثيين بالأدوات والمعدات والخبراء لإنشاء معامل إنتاج حبوب الكبتاجون لتأمين مصادر تمويل جديدة لأنشطتها الإرهابية”.
وأضاف "الجرادي" لـ“بران برس”، أن الأجهزة الأمنية والعسكرية حققت إنجازات نوعية في “كشف شبكات التهريب المرتبطة بالنظام الإيراني والحوثيين وإحباط العديد من عمليات تهريب الأسلحة والمخدرات خلال الفترة الأخيرة”.
وذكر أنّ “التنسيق المشترك مع الأشقاء في التحالف والشركاء الدوليين أسهم في تعزيز نجاحات اليمن في حماية مياهه الإقليمية وممراته البحرية الحيوية وتعزيز أمن الملاحة الدولية في البحر الأحمر”.
وإلى جانب دعم الحوثيين، أوضح الجرادي، أنّ التصعيد التهريب يأتي “في سياق الاستراتيجية الإيرانية لدعم جماعة الحوثي الإرهابية والحفاظ عليها بعد خسائرها في سوريا ولبنان”. معتبرًا استمرار هذا الدعم “امتداد للنهج الإيراني العدائي القائم على تصدير الفوضى وإشعال الحروب، وتهديد أمن اليمن والمنطقة، وابتزاز المجتمع الدولي”.
فراغ أمني وتضارب مصالح
من جانبه، قال الباحث في الشؤون السياسية والأمنية، عاصم المجاهد، إن شبكات المخدرات تستفيد من “الفوضى الأمنية” وضعف مؤسسات الدولة في اليمن لتوسيع نشاطها على أكثر من محور.
وأضاف "المجاهد" لـ“بران برس”، أن هذه الشبكات تستغل الفراغ الأمني وتضارب المصالح للتحرك بحرية في البر والبحر، مستخدمة السواحل النائية والمرافئ الصغيرة كموانئ خلفية للتفريغ والتجميع. كما تستفيد من ضعف الرقابة الجمركية والإدارية لتهريب الممنوعات، ومن الفقر والبطالة لتجنيد شباب محليين كعمال تهريب ورؤوس عبور.
وداخليًا، قال إنها “تعتمد على شبكات تهريب تقليدية تتقاطع مع تهريب البشر والبضائع، وأحيانًا تتعاون مع موظفين فاسدين داخل المؤسسات الضعيفة لتسهيل أعمالها”.
أداة حرب
في السياق ذاته، قال الباحث في الشؤون العسكرية والسياسية ماجد الظاهر، إن “ظاهرة إغراق اليمن بالمخدرات” يمثل “تهديداً مباشراً للأمن الاجتماعي والاقتصادي في اليمن وللدول المجاورة”. محذّرًا من أن هذا النشاط المتصاعد “سيضاعف تمويل جماعة الحوثي ومشروع زعزعة استقرار الجوار، معتبرًا تجارة المخدرات “الركيزة الأساسية لاقتصاد الحرب”.
وأضاف لـ“بران برس” أن اليمن يملك أكثر من 2200 كيلومتر من السواحل بلا تغطية كافية من قوات خفر السواحل، ما يجعل البلاد مفتوحة أمام شبكات التهريب.
وإلى ذلك، قال "الظاهر"، إن إيران تستخدم المخدرات كأداة نفسية وتجسسية لضرب المجتمعات الخليجية في عمقها القيمي. مؤكدًا أن “إيران وأذرعها كثّفوا خلال السنوات الأخيرة عمليات تهريب المخدرات بغرض التأثير على المجتمع السعودي وضرب قيمه ومبادئه في إطار حرب نفسية ممنهجة”.
نشاط مبكر وجذور تاريخية
رئيس مركز نشوان للدراسات والإعلام، عادل الأحمدي، قال إن الحوثيين نشطوا في تهريب المخدرات منذ حروب الأولى ضد الدولة بمحافظة صعدة، مؤكدًا أنه شهد هذا النشاط بنفسه عندما زار منطقة رازح في الحرب السابعة.
وأضاف "الأحمدي" لـ“بران برس”، أن الجماعة تشبه في هذه الممارسة “جماعة الحشاشين التاريخية، التي استخدمت المخدرات لغسل عقول أتباعها وتسييرهم في حروب انتحارية”.
وتابع: “هم في الأساس عبارة عن عصابة مخدرات هدفها إغراق اليمن والمملكة العربية السعودية والإقليم بالمخدرات. كما يحاولون أن يغرقوا بعض دول أفريقيا بالقارات”.
وإلى جانب العوائد المالية الضخمة من تجارة المخدرات، قال الأحمدي إن “هدفهم إفساد شباب الأمة سواء داخل اليمن أو في الإقليم”.
واستبعد "الأحمدي"، قدرة إيران على نقل مركز تجارة المخدرات من سوريا ولبنان إلى اليمن قائلًا: “لن يلحقوا أن يأتوا بتجارة نظام بشار الأسد إلى اليمن، لأنهم سيذهبون قريبًا إن شاء الله”.
وصفة الخلاص
شدد "الأحمدي"، على ضرورة “الإسراع بتحرير صنعاء من الحوثيين”. وقال: “يجب إسقاطهم سريعًا وتحرير المناطق المحتلة إيرانيًا، لأن في ذلك خيرًا للشعب اليمني، وللملاحة الدولية، والإقليم، والجوار، ولصحة النشء وعافيتهم وعقولهم”.
من الناحية الفكرية، قال إن الحوثيين “لا يكتفون أبدًا بتسميم العقول بأفكارهم وعقائدهم الخاطئة، ولكنهم يريدون أيضًا إنهاك الأجساد، فهم لا يستطيعون أن يكذبوا إلا على شعب مسطول.
وأضاف أنهم “يستخدمون المخدرات حتى على أتباعهم؛ لأنهم يشبهون جماعة الحشاشين أصحاب حسن الصباح في غسل عقول النشء، واستغلالهم عبرها في الحرب. وبالتالي، صنعوا فئة الانتحارين. مضيفًا أن “هناك عقاقير معينة يستخدمونها لزيادة الإقدام في المعارك، ويجعلونهم بعد ذلك يرمون بأنفسهم للتهلكة دون أي حساب.
مقاربة شاملة
في سياق حديثه عن سبل مواجهة هذه الآفة، قال "المجاهد" لـ"بران برس"، إنها تتطلب مقاربة شاملة تتجاوز التدخل الأمني المباشر إلى تعزيز قدرات المراقبة الساحلية، ومكافحة الفساد في الموانئ، وإطلاق مشاريع اقتصادية بديلة للشباب، وتعاون استخباراتي إقليمي لتتبع السفن والشبكات.
وحذّر من تحول اليمن إلى مركز لوجستي إقليمي للمخدرات قائلًا إن هذا سيقوض أي عملية إعادة بناء الدولة، ويزيد العنف المحلي، ويفكك النسيج الاجتماعي نتيجة التنافس على الريع والموارد.
وشدد على أن الحلول تتطلب التزاماً إقليمياً ودولياً بعيد المدى، وإجراءات عملية تشمل تعزيز الشفافية في الموانئ، وتقوية النيابة العامة والمالية، وفتح مسارات تعاون حقيقي بين السلطات المحلية والقبائل والأمن الوطني.
مواجهة جماعية
الدكتور "الدباء"، أكد في ختام حديثه لـ“بران برس”، أن “السواحل الشرقية والمنافذ البرية لليمن تمثل اليوم أبرز نقاط التهديد الأمني”، داعيًا إلى “تنسيق إقليمي واسع لقطع هذا الخطر في بدايته”.
فيما اقترح الباحث "الظاهر"، على ضرورة تعزيز الرقابة البحرية، وتتبع قنوات التمويل وغسيل الأموال، ووضع خطة وطنية متكاملة لمكافحة المخدرات تجمع بين الأمن والاقتصاد والتوعية. مؤكدًا أن مكافحة هذه التجارة لا تقتصر على ضبط الشحنات، بل تتطلب منظومة مالية ومؤسسية لمنع تدفق الأموال غير المشروعة.
وأما الباحث "الأحمدي"، فدعا المجتمع الدولي والدول المجاورة والجهات الأمنية إلى تكثيف جهودهم لملاحقة شبكات التهريب، والعمل على تحرير المناطق المحتلة لوقف هذه التجارة التي تهدد النشء ومستقبل الأمة.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news