الحوثيون.. حوار عند الضعف وصمت عند القوة
قبل 33 دقيقة
في كل مرة يواجه فيها الحوثيون مأزقاً سياسياً أو تصاعداً في الغضب الشعبي ضدهم، يخرج خطابهم فجأة مفعماً بمفردات “الحوار” و”السلام” و”الشراكة الوطنية”. يتحدثون بلغة المظلومية، ويتقمصون دور الداعين إلى التفاهم، وكأنهم لم يكونوا طوال السنوات الماضية السبب الرئيس في تمزيق النسيج الوطني وإشعال الحرب وتدمير مؤسسات الدولة.
لكن الحقيقة التي يدركها اليمنيون اليوم أكثر من أي وقت مضى هي أن جماعة الحوثي لا تقترب من الحوار إلا عندما تضعف، ولا تتحدث عن السلام إلا حين تشعر أن الأرض تهتز تحت أقدامها، وأن انفجار الشارع بات قريباً.
هذا الخطاب “المتصالح” لا يأتي من باب المسؤولية الوطنية، بل هو مناورة سياسية مكشوفة هدفها امتصاص الغضب وتجميل الصورة أمام الداخل والخارج. فكلما اشتدت الأزمات الاقتصادية في مناطق سيطرتهم، وارتفعت أصوات المواطنين المقهورين من الجوع وانقطاع المرتبات، أعاد الحوثيون إنتاج الخطاب ذاته: “نمدّ أيدينا للجميع”، “الوطن يتسع للجميع”، “نريد وقف الحرب والعنف”. لكنهم في الوقت نفسه يواصلون نهب المال العام، ومصادرة الممتلكات، واعتقال كل من يجرؤ على نقدهم، وفرض الجبايات على التجار والمزارعين، وتكميم الأفواه في المدن الخاضعة لهم.
كيف يمكن لمن يحكم الناس بالحديد والنار، ويقمع الرأي الآخر بلا رحمة، أن يتحدث عن الحوار؟ كيف لمن صادر مؤسسات الدولة، واستبدل القانون بسلطة السلالة، أن يدعو إلى شراكة وطنية؟ إن هذا التناقض الفاضح يكشف جوهر مشروع الحوثي القائم على الهيمنة والابتزاز لا على التوافق والمواطنة المتساوية.
لقد جرّب اليمنيون الحوثيين في كل مراحل “الحوار” السابقة، من اتفاق السلم والشراكة الذي انقلبوا عليه خلال أسابيع، إلى مشاورات الكويت والرياض ومسقط التي أفشلوها واحدة تلو الأخرى. كل مرة كانت الجماعة تدخل الحوار بوجه دبلوماسي وتخرج منه بيد مليئة بالسلاح. لم يكن الحوار بالنسبة إليهم يوماً وسيلة للوصول إلى سلام دائم، بل غطاء مؤقت لإعادة ترتيب صفوفهم أو تحسين صورتهم أمام المجتمع الدولي.
والمجتمع الدولي نفسه لم يعد مخدوعاً بتلك اللغة الناعمة. تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية ترصد بوضوح الانتهاكات اليومية في مناطق الحوثيين: تجنيد الأطفال، القمع الممنهج للصحافة، استغلال المساعدات الإنسانية، ونهب الأموال العامة. ولهذا باتت الدعوات الحوثية إلى الحوار أشبه بمسرحية سياسية تهدف إلى كسب الوقت وتخفيف الضغوط دون أي التزام عملي أو تغيّر حقيقي في السلوك.
الشعب اليمني اليوم يعيش تحت سلطة تستخدم الدين والشعارات الثورية لتبرير الجباية والنهب، وتلبس ثوب “المقاومة” لتخفي مشروعاً طائفياً يضرب جوهر الهوية اليمنية الجامعة. لقد حوّل الحوثيون صنعاء من عاصمة لكل اليمنيين إلى مدينة صامتة خائفة، تراقب فيها العيون بعضها البعض، ويُساق فيها الناس إلى التجنيد أو الصمت. ومع ذلك يتحدثون عن “وقف الحرب والعنف”! أي مفارقة هذه؟
السلام لا يُبنى بالكلمات، ولا يصنعه من يؤمن أن السلطة “حق إلهي”. السلام يحتاج إلى شجاعة في الاعتراف بالخطأ، وتنازل من أجل الوطن، لا من أجل استمرار حكم الجماعة. أما أن تبقى البنادق مشرعة، والسجون مليئة بالمعارضين، والضرائب تنهش جيوب الفقراء، ثم يُطلب من الآخرين أن يصدقوا نوايا “الحوار”، فذلك استهزاء بعقول اليمنيين.
إن من يريد السلام فعلاً يبدأ بإطلاق المعتقلين، ورفع اليد عن أموال الناس، ووقف قمع الصحفيين، وفتح المجال العام لكل المكونات السياسية. يبدأ بإلغاء نظام “المشرفين” الذين حولوا الدولة إلى إقطاعيات صغيرة، وبوقف تجنيد الأطفال، ورفع الشعارات الطائفية من فوق المنابر والمؤسسات. هذه هي أبجديات السلام الحقيقي، لا التغريدات ولا التصريحات المعلّبة.
لقد بات واضحاً أن الحوثيين لا يؤمنون إلا بحوارٍ يقود إلى تكريس سلطتهم، ولا يتحدثون عن الشراكة إلا بقدر ما تمنحهم الوقت لإعادة ترتيب صفوفهم. ولذلك، فإن أي حديث عن الحوار معهم يجب أن يُقابل بالحذر الشديد، وأن يكون مشروطاً بأفعال ملموسة لا وعودٍ جوفاء.
اليمنيون اليوم لا يبحثون عن “سلامٍ على الورق”، بل عن دولة حقيقية تُعيد الكرامة والعدالة لكل مواطن، وتُنهي زمن الميليشيا والجباية باسم الدين. وما لم يُدرك الحوثيون هذه الحقيقة، فسيظلون يكررون خطابهم ذاته كلما انهزموا، دون أن يجدوا من يصدقهم بعد الآن.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news