تاريخ الشمال والجنوب السياسي
قبل 8 دقيقة
يكشف تاريخنا الحديث أن شمال اليمن، رغم تنوعه المذهبي، اتّحد سياسياً في دولة مركزية واحدة قبل الجنوب بزمن طويل، نصف قرن على الأقل من العام 1918م.
وقبل ذلك، كان الشمال وحدة إدارية “ولاية” على مدى قرابة نصف قرن، تحت حكم الوالي العثماني منذ 1872م.
في المقابل ظل الجنوب، على الرغم من وحدته المذهبية، مجزأ سياسياً إلى 25 سلطنة ومشيخة،
وبقي كذلك حتى إعلان الاستقلال عام 1967م والاندماج في دولة سمّيت “جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية”، وعاصمتها عدن،
وهي وحدة ليس لها سابقة تاريخية على نفس النطاق الجغرافي.
كان العنف الثوري أداة رئيسية في عملية التوحيد.
لاحقاً، خضع اسم الدولة الجديدة المستقلة للتعديل بروح وحدوية يمنية، فتم إزالة كلمة “الجنوبية” وإحلال كلمة “الديمقراطية” بدلاً عنها: جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.
قد يُقال إن تلك الوحدة الاندماجية للجنوب، المتزامنة مع الاستقلال، كانت مسبوقة بصيغة اتحادية “فيدرالية” ضمّت أغلب السلطنات، وليس كلها، تحت إشراف الإنجليز، هي اتحاد الجنوب العربي الذي أُعلن رسمياً عام 1963م.
لا ننكر ذلك، لكنه كان اتحاداً قصيراً وهشّاً، إذ كان وجوده مرهوناً بوجود الوسيط الأجنبي كقوة محايدة مهيمنة على جميع أطراف الاتحاد.
بعد العام 1967م، كان على حكومة الاستقلال في جنوب اليمن إعادة تنظيم وهيكلة مناطق الدولة إدارياً وربطها مركزياً بالعاصمة، وذلك إثر عقود طويلة من التجزؤ السلاطيني الذي كان يعبر عن نفسه في شكل وحدات سياسية صغيرة منفصلة لا يربطها رابط سوى علاقة الحماية الاسمية بالحاكم البريطاني في عدن.
قُسِّمَتْ الجمهورية الجديدة بشكل عام إلى ست محافظات.
لم تكن المهمة سهلة.
فالانقسامات والنعرات المحلية المناطقية والعشائرية كانت لا تزال في ذروة نشاطها، إلى درجة أن كل قسم يستنكف من إدخاله ضمن وحدة إدارية تحمل اسم خاص بقسم آخر!
وهو ما استدعى الإشارة إلى كل محافظة برقم يميزها بدلاً من اسم علم: المحافظة الأولى (عدن)، المحافظة الثانية (لحج) المحافظة الثالثة (أبين) الرابعة (شبوة) الخامسة (حضرموت) السادسة (المهرة).
وقد اعترف علي ناصر محمد في مذكراته أن ترقيم المحافظات، بدلاً من تسميتها، كانت تدبيراً ضرورياً لتجنب “الإشكاليات المحتملة التي قد يثيرها الاسم الذي سيطلق على هذه المحافظة أو تلك إذا ما حمل اسم منطقة بعينها من المناطق التي تتكون منها هذه المحافظات وستعده بقية المناطق مسخاً لها ولخصوصيتها”، (علي ناصر محمد، ذاكرة وطن الجزء الثاني، ص39 و40)
بل حتى المديريات في كل محافظة كان يتم تسميتها جهوياً، للأسباب ذاتها التي دعت من قبل إلى ترقيم المحافظات، فيقال: المديرية الشرقية، المديرية الغربية، المديرية الشمالية.. وهكذا.
باستثناء عدن التي حافظت مديرياتها على أسماءها.
من الخطوات المهمة حينها توحيد حضرموت (إدارياً) كمحافظة، وهي التي كانت قبل ذلك عصية على التوحيد (السياسي) بين جناحيها: سلطنة الكثيري في الوادي وسلطنة القعيطي في الساحل (المكلا).
لكن مشكلة النزوع القوي إلى التجزؤ، والحميّة الشديدة على الخصوصيات المناطقية والعشائرية، وعلى الرغم من معالجتها على الورق، إلا أنها ظلت حية في النفوس، وكانت تطفو على السطح عند كل دورة صراع تحت عناوين وشعارات جديدة.
في وقت لاحق، بحسب علي ناصر محمد، أصبح من الممكن تسمية تلك المحافظات باسماء تاريخية متفق عليها: حضرموت، لحج، أبين، شبوة، المهرة، عدن.
ورغم أن سياسة ترقيم المحافظات شكلت حلاً مؤقتاً لتفادي النزاعات، فإن هذا الإجراء كان يدل على عمق الانقسامات الداخلية التي تميز الجنوب، فالتعدد السُلطاني والمشيخي الذي ساد فيه لعقود طويلة ترك وراءه بنية اجتماعية عصية على الاندماج، ومخيالاً محلياً حادّ الحساسية تجاه الهوية والمنطقة.
وقد لاحظ المستشرق الفرنسي جان جاك بيربي، عام 1960م، أن “الوجود البريطاني هو الذي يمثّل هنا (في جنوب اليمن) عامل التجانس بين مجموعة إمارات وقبائل وعشائر تعيش في الاكتفاء الاقتصادي والفوضى السياسية”.
مشيراً إلى أن “التجانس الظاهر في العنصر والدين واللغة بين سكان هذه المنطقة لم يمنع استمرار الانقسامات”.
وفي موقع آخر يقول: “إن كل هذه الكيانات تسمّى (دولاً) وعلى الأصح سلطنة لحج وحدها يمكن، مع التساهل، اعتبارها تستحق هذا الاسم”، ( (جان جاك بيربي، “جزيرة العرب”، ص180 و187).
وهكذا، بينما أمكن في الشمال تشكيل المحافظات على مراحل، واختيار مسمياتها وحدودها الجغرافية بقرارات مركزية دون اعتراض يُذكر، كانت التسمية ذاتها في الجنوب تُعد عملاً سياسياً محفوفاً بالمخاطر.
أخيراً نقول:
إذا كان 22 مايو 1990م هو اللحظة التي اتحد فيها اليمن الكبير، فإن 14 أكتوبر 1963م و30 نوفمبر 1967م محطتان في طريق وحدة واستقلال الجنوب، وتشكلان معاً طبقة تكوينية على طريق وحدة اليمن الكبير..
ولو افترضنا أن دولة اليمن الواحد (الجمهورية اليمنية) استمرّت فعلياً من 1990 إلى 2015 -أي خمسة وعشرين عاماً- أما اسمياً وقانونياً لا تزال قائمة إلى اليوم، فإن الدولة الواحدة في الشطر الجنوبي استمرّت ككيان قانوني معترف به، من 1967 إلى 1990، أي ثلاثة وعشرين عاماً فقط.
ما يعني أن وحدة الجنوب، اليوم وفي المستقبل، ليست بالضرورة أمتن ولا أعمق ولا أقدر على البقاء من وحدة اليمن الكبير،
وأن ما يحتاجه اليمن الكبير ليبقى موحَّداً ليس أقل ولا أكثر صعوبة وتعقيداً مما يحتاجه “الجنوب” ليعود موحَّداً من جديد في دولة على حدود ما قبل 1990م.
من صفحته في فيس بوك.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news