البودكاست... حين يتحوّل من منبرٍ للفكر إلى أداةٍ للفرقعات الإعلامية
قبل 47 دقيقة
في السنوات الأخيرة، ومع اتساع فضاء الإعلام الرقمي، تحوّل “البودكاست” إلى وسيلةٍ مهمة للتأثير والتعبير عن الرأي، ولخلق حوارٍ وطنيٍّ ناضجٍ إذا ما استُخدم بوعي ومسؤولية. لكنّ ما نراه اليوم على بعض المنصات اليمنية لا يمتّ لهذا المفهوم بصلة، بل يكاد يكون نسخةً مشوّهة من الحوارات الجادة، بعدما تحوّل إلى ساحةٍ يتبارى فيها بعض من انتهى عمرهم السياسي، بحثاً عن بريقٍ مفقود ومجدٍ لم يعد قائماً إلا في ذاكرتهم.
إنّ المؤسف أن هؤلاء الذين أفنوا أعمارهم في السياسة، ولم يقدّموا للوطن سوى مزيدٍ من الانقسام والتجاذب، وجدوا في “البودكاست” طوق نجاةٍ يعيدهم إلى دائرة الضوء بعد أن لفظهم الواقع السياسي. غير أنّ ما يقدمونه لا يحمل قيمة فكرية ولا رؤية وطنية، بل هو استعراض صوتي لماضٍ متآكلٍ وادعاءات بطولاتٍ يدرك المواطن اليمني أنها خرافاتٌ من ورق. المواطن الذي يرزح تحت وطأة الحرب والفقر لا يبحث عن تسجيلاتٍ صوتيةٍ تتغنى بأمجادٍ شخصية، بل عن صوتٍ صادقٍ يوحّد الصف، ويزرع الأمل، ويعيد الثقة بالمستقبل.
لقد تحوّلت بعض هذه الحلقات إلى ما يشبه منصّات للثرثرة السياسية التي تُعيد إنتاج الماضي بكل أحقاده وصراعاته، وكأنّ الوطن بحاجةٍ إلى مزيدٍ من الجراح. يخرج أحدهم متقمصاً دور المفكّر أو الثائر، فينثر اتهاماته يميناً ويساراً، ويعيد سرد الأحداث كما يشتهي، لا كما وقعت فعلاً، ليقدّم نفسه بطلاً وهمياً في مسرحٍ فقد جمهوره منذ زمن. والمضحك أنّ بعضهم يتحدث عن “تجديد الفكر الجمهوري” وهو في الواقع يكرّس الانقسام الجمهوري بمفرداته الإقصائية وأسلوبه الاستعلائي.
المشكلة ليست في “البودكاست” كأداة، بل في عقلية من يستخدمها. فوسائل الإعلام – على اختلاف أشكالها – لا تخلق الوعي ما لم يملك صانعها وعياً حقيقياً بما يقول. أما أن يتحوّل “المنبر” إلى مكبّ للتصريحات الرنانة، وميدانٍ للتنافس على من يرفع صوته أكثر أو يسخر من خصمه بعباراتٍ أكثر حدة، فذلك لا يصنع وعياً ولا يضيف شيئاً للوطن.
كان الأجدر بهؤلاء أن يوجّهوا نشاطهم الإعلامي إلى توحيد الصف الجمهوري الممزق، وأن يسهموا في بناء خطابٍ وطنيٍّ جامعٍ يعيد الاعتبار لفكرة الدولة والمواطنة، لا أن يُغرقوا الفضاء الرقمي بفيضٍ من “الفرقعات الإعلامية” التي لا تغني ولا تسمن من جوع. فالوطن اليوم بحاجةٍ إلى عقولٍ تُصلح لا أصواتٍ تصرخ، وإلى حوارٍ يعالج لا مناظراتٍ تثير الغبار.
إنّ استدعاء الماضي بهذه الطريقة المليئة بالتشفي والتضخيم لا يخدم القضية الوطنية في شيء، بل يُعيد إنتاج الكراهية بين فصائل يفترض أنها اليوم في خندقٍ واحدٍ ضد مشروعٍ إماميٍّ ماضويٍّ يريد هدم كل ما تبقى من الدولة والجمهورية. ومن المؤسف أن نرى بعضهم يصرّ على إشعال الحرائق داخل البيت الجمهوري باسم الحرية الإعلامية، في وقتٍ تحتاج فيه البلاد إلى إطفاء الفتن لا إذكائها.
لقد أدرك المواطن اليمني أنّ تلك الفرقعات الصوتية لا تحمل مشروعاً وطنياً، بل مجرد محاولةٍ يائسة للعودة إلى المشهد بعد أن طوتهم الأحداث. الوطن لا يحتاج إلى "أبطالٍ من ورق" يظهرون عبر الميكروفونات، بل إلى رجالٍ يعملون بصمتٍ ويتركون بصمةً حقيقيةً في الميدان.
ويبقى الأمل أن يدرك هؤلاء – قبل فوات الأوان – أن “البودكاست” ليس وسيلةً لإطالة العمر السياسي، بل مساحةٌ للنقاش الراقي، وأنّ احترام عقول الناس والترفّع عن المهاترات هو السبيل الوحيد لاستعادة الثقة. فالإعلام الواعي لا يصنع ضجيجاً، بل يصنع وعياً، والوطن لا ينهض بالصوت العالي، بل بالفعل الصادق.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news