مسعود عمشوش
في ذهن جيل سبعينيات القرن الماضي، ارتبطت صورة الصين بالزعيم ماوتسي تونج. وارتبطت كذلك بمجلات (الصين الجديدة) و(بناء الصين) و(شباب الصين) التي كانوا يستلمونها شهريا عبر البريد، ويقرأونها ثم يستخدمونها في تغليف الدفاتر والكتب. وارتبطت أيضا بالبعثات الطبية الصينية في مستشفيات سيؤن وعدن، والطرق والجسور التي شيدها الرفاق الصينيون في المكلا وزنجبار ومختلف بقاع الجنوب.
لقد كانت صورة تمجّد العمل والمبادرات وتنبذ الملكية الخاصة والقطاع الخاص، إذ كانت الصين في تلك المرحلة تجسد حقا التطرف اليساري المعادي للرأسمالية. وفي الحقيقة لم يكن المد اليساري في تلك الفترة محصورا في الجنوب بل أن معظم النخب العربية، من البحرين والكويت والعراق وسوريا ولبنان ومصر وحتى الجزائر والمغرب قد وقعت تحت تأثير اليسار. ولاشك أن الرغبة في التخلص من تأثير الاستعمار الغربي الرأسمالي الامبريالي قد ساعد على وقوع الكثير من النخب والأحزاب العربية في خدعة معاداة القطاع الخاص والرأسمالية.
ولحسن الحظ أن الصين نفسها لم تتأخر في نبذ اليسار والعودة إلى أحضان الرأسمالية. وحتى قبل دول المغفور له الاتحاد السوفييتي. ولا شك أننا في الجنوب دفعنا ولا نزال ندفع ثمن تأثرنا بصين ماتسي تونج. فمعاداتنا للرأسمالية والقطاع الخاص جعلتنا فقراء ومنعنا من استثمار البترول، ومكن ولا يزال يمكن الرأسمال اليمني الشمالي من الاستحواذ على كثير من بنيتنا التحتية.
واليوم تطورت القيادة الصينية كثيرا وتجاوزت عصر أفكار ماوتسي تونج اليسارية. ففي ظل عالمٍ مضطرب، ودائم التغير، دخلت الصين منعطفا اقتصاديٍا جديدا، وأصبحت اليوم أحد أهم المحركات الرئيسية للاقتصاد العالمي. وبمرونة فائقة تسعى إلى تعزيز اقتصادها في مواجهة الضغوط الدولية والأمريكية بشكل خاص، وتُنفّذ إصلاحاتٍ جريئةً، وتستثمر بكثافة في مجالاتٍ استراتيجية كالتكنولوجيا والطاقة الخضراء والبنية التحتية. وأصبحت الصين مثل غيرها من الدول الرأسمالية تبحث عن بسط نفوذها على أكبر قدر من الأسواق في العالم، ومنها سوقنا المتواضع.
لهذا فهي تنتهج سياسة خارجية مرنة وفعالة. فقد وقعت الحكومة الصينية مع حكومة بلادنا في مطلع هذا العام مذكرتي تفاهم لتعزيز التعاون المشترك و فتح آفاق جديدة للشراكة الاستراتيجية بين البلدين، وقعهما عن جانب بلادنا وزير التخطيط والتعاون الدولي واعد باذيب وعن الجانب الصيني القائم بأعمال سفارة الصين شاو تشنغ. وتشمل الاتفاقية الأولى، التي تمثل إطارا شاملا للتعاون التنموي، انضمام بلادنا إلى مبادرة التنمية العالمية التي اقترحها الرئيس الصيني شي جينبينغ.
وتتضمن الاتفاقية عدة محاور رئيسية من بينها مكافحة الفقر وتعزيز الأمن الغذائي وتطوير الصحة العامة ودعم التحول الصناعي ومواجهة التغير المناخي وتعزيز التنمية الخضراء وبناء القدرات البشرية والتواصل في العصر الرقمي.
وتنص الاتفاقية على تقديم الصين هبات وقروض من دون فوائد للمشاريع التنموية في بلادنا إلى جانب توفير موارد مالية من صندوق التنمية العالمي وإنشاء آلية حوار للتعاون المشترك برئاسة البلدين وعقد اجتماعات دورية حضورية وافتراضية لتنسيق السياسات وتبادل الخبرات.
أما الاتفاقية الثانية فتتعلق بتقديم الصين منحة من التجهيزات والمعدات للشرطة التي سيتم نقلها إلى ميناء (المكلا) بمحافظة حضرموت ) لدعم وزارة الداخلية.
وقامت الصين بتقديم تسهيلات لفتح قسم لتدريس اللغة الصينية في كلية اللغات بجامعة عدن منذ أكثر من عام.
وتتحرك الصين اليوم بشكل مكثف على مستوى حضرموت، حيث زار القائم بأعمال السفير الصيني تشاو تشتغ مؤخرا المكلا واجتمع بالأمين العام للمجلس المحلي بحضرموت صالح العمقي وبحثا جوانب تعزيز التعاون والشراكة في مختلف القطاعات. وتطرق اللقاء، إلى التعجيل بعودة البعثات الطبية الصينية، والتنسيق لشراكات في القطاعات الصحية والتعليم الفني والتدريب المهني والجوانب الاستثمارية، ومنح تسهيلات استثمارية لرجال الأعمال الحضارم، وتأهيل الكوادر الوسطية، الى جانب التعاون في قطاعي الطرق والتعليم، وبحث امكانية التدخل في القطاعات الخدمية. وقد رحب العمقي بزيارة القائم بأعمال السفارة الصينية، التي تعد الثانية لحضرموت، مؤكدا حرص قيادة السلطة المحلية على تعزيز الشراكة والتعاون مع الأصدقاء في جمهورية الصين الشعبية في مختلف القطاعات، ومتطلعًا الى مزيد من التعاون.
وفي وفي مطلع الشهر الجاري شاركت جامعة حضرموت وجامعة سيؤن وجامعة عدن وجامعة أبين وجامعة شبوة في زيارة تاريخية لجامعة بكين في جمهورية الصين. وقعت خلالها جامعة حضرموت اتفاقية لاستقبال الطلاب الصينيين في برنامج تدريس اللغة العربية للناطقين بغيرها.
باختصار، بعكس ما نجده اليوم في أسواق دول الجوار، أصبحت معظم ملابسنا و أحذيتنا ومعلباتنا و ألواحنا بطارياتنا وهواتفنا وحواسيبنا وكل البضائع المستوردة إلى سوقنا (made in china). ومرة أخرى زاد عدد ذوي العيون المستديرة في المكلا وسيؤن. وقريبا يمكن أن تشهد هاتان المدينتان مرة أخرى أزمة في الحمير.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news