د/ عبدالقادر الجنيد:
هل يمكن— في اليمن— الكلام بحياد وهدوء ولباقة ولياقة عن وقائع حدثت؟ ومازال أشخاصها يعيشون؟
بالتأكيد، لا يمكن.
ومع هذا، فإني سأحاول القيام به هذا اليوم.
سوف نتكلم كيف يبدأ الصراع في قرية يمنية ثم يتشعب إلى آخر الدنيا.
نبدأ عند حمود المخلافي وحمود الصوفي في قرية ونصعد إلى تعز واليمن والخليج
حمود المخلافي، اليوم
اليوم، هو يوم حمود المخلافي في تعز.
حفل كبير لتخريج معاقين من الحرب وغير معاقين من أسر الشهداء.
الصور، مبهرة.
التنظيم والقدرات، تجذب النظر وتثير الإعجاب.
الميزانية والأموال كبيرة، سواء في تدريبهم وتأهيلهم ورعايتهم أو في هذا الحفل الكبير.
كل عام يتخرج 1200 طالب مهني وهندسي وحرفي في 17 تخصص من معهد احتراف وغيرها العشرات.
هذا عمل رائع ومبهر.
وعلى مثل هذا فليتنافس اليمنيون والخليجيون.
حمود المخلافي وافتهان المشهري
أطلق حمود المخلافي إسم افتهان المشهري على هذه الدفعة التي تخرجت اليوم.
الرمزية واضحة: تكريم امرأة اغتيلت ظلما في وضح النهار، صارت رمزا لوجع المدينة وصرختها ضد الفوضى
لكن المأساة المؤلمة أن من قتل افتهان المشهري هو شخص يُعرف بلقب “الباسق”، وهو من أقارب حمود المخلافي.
وقد أُدرج اسمه ضمن من يُطلق عليهم في تعز “المفصعين” أو البلاطجة، وهي ظاهرة متنامية باتت تمزّق صورة المدينة وتشوّه روحها المدنية
هناك الكثير من عينات “المفصعين” من مناطق مختلفة ولكن هذه الأيام وبسبب هذه الحادثة، قد التصقت الوصمة أكثر بسكان حي الروضة الذين معظمهم من منطقة المخلاف شمال تعز.
شهرة حمود المخلافي وساحة الحرية
صعد نجم حمود المخلافي إلى أعلى درجة عندما قام بتحرير ساحة الحرية في ٢٠١١ وطرد قوات الرئيس صالح منها التي كانت قد حرقت خيامها ودكتها بالبولدوزر ثم استمر بحمايتها بواسطة المسلحين القرويين الذين أحضرهم من قرى المخلاف المجاورة شمال تعز.
يمكن القول أن تحرير ساحة الحرية أثلج قلوب الناس في تعز بعد مشاهد حرق الخيام ودك ساحة الاعتصام بالبولدوزر، وأرسى بداية صورة حمود المخلافي بوصفه “حامي تعز”.
أول شهيد من ساحة الحرية
من المشاهد السوريالية في تعز، كان أن المحافظ الموالي للرئيس صالح نصب لأصحابه خيمة بين المحتجين ليعتصموا في الساحة ضد الرئيس صالح.
ثم جاء المشهد الثاني.
أول شهيد من ساحة الحرية كان بسبب إلقاء قنبلة يدوية من أحد مرافقي وأقرباء محافظ تعز حمود الصوفي على أول مظاهرة خرجت من ساحة اعتصامات الحرية بعد صلاة جمعة.
تم إخفاء من رمى القنبلة وتسفيره إلى خارج البلاد.
حمود الصوفي والرئيس صالح وتعز
من المفارقات الشخصية واليمنية والتعزية العجيبة، أن محافظ تعز عندما قامت حركة احتجاجات ١١ فبراير، كان إسمه حمود أيضا.
الصوفي الذي يأتي من نفس منطقة المخلافي، هو شخص رفعه الرئيس صالح إلى الأعالي كجزء من طريقته في حكم كل مناطق البلاد بعمل انقسامات داخل كل بيئة وكل أسرة وكل منطقة بين ناس يوالونه ويعتمدون في حياتهم وقوتهم عليه وبين خصومه الذي يصبحون أيضا خصوم الشخص الموالي للرئيس صالح حتى ولو كانوا إخوة أو أبناء عمومة.
صالح حكم اليمن عبر هندسة الانقسامات، وجعل الولاءات الشخصية والعائلية أدوات للبقاء في السلطة.
رقصة ثعابين
الرئيس صالح، قد قال أن من يحكم اليمن إنما هو كمن يرقص على رؤوس الثعابين.
وعلى هذا يمكن أن نعتبر أن ارتفاع نجم الصوفي إنما هي إحدى هذه الرقصات.
الخليج ورقصات اليمن
يبدو أن كل الزعماء ينبهرون بقدرات حمود الصوفي عندما يقتربون منه ويتوسمون الفائدة منه ويغدقون عليه.
في آخر أيام الرئيس صالح، تم تعيين حمود خالد الصوفي، رئيسا لجهاز الأمن القومي (!)
ومنحه رتبة جنرال/ لواء (!)
وهذا قاد حمود الصوفي إلى المرحلة الخليجية.
أصبح الصوفي أحد رجال الإمارات في اليمن.
وهو الآن رجل الإمارات في الشؤون السياسية في تعز وفي إدارة صراعاتها المحلية.
ويدير الكثير من أمور تعز ودهاليزها من محل إقامته في القاهرة.
يمتلك حمود الصوفي قدرة لافتة على كسب ثقة الزعماء من مختلف الاتجاهات، إذ يبرع في إقناع من يقتربون منه بأنه مفيد لهم، فيغدقون عليه الثقة والمكانة
هذا أمر يثير الإعجاب فعلا.
الحمودان: الصوفي والمخلافي
حمود خالد الصوفي وحمود سعيد المخلافي، ينحدران من المنطقة نفسها في شمال تعز المسماة “المخلاف”.
ورغم القرابة الجغرافية، فإنهما يمثلان خصمين على أكثر من مستوى: الخصومة المحلية، والسياسية، والعقائدية، وحتى على مستوى الاصطفافات الخليجية.
هذه المفارقة تصلح نموذجا مصغرا للانقسامات التي عصفت باليمن طوال العقود الأربعة الماضية
هذه فرصة مناسبة للغاية لبحث أمور العداوات والخلافات التي انتشرت في الأربعين السنة الماضية بطول اليمن وعرضها.
تفريخ الشقاقات وحروب “البوتقات”
نحن نتضرر من كل هذه العداوات.
تعز، تتضرر من كل هذه العداوات.
اليمن، مصابة بوباء هذا النوع من العداوات.
هذه نسخة صغيرة من العدوات المنتشرة بطول اليمن وعرضها.
عداوات تبدأ باكتساب الرئيس صالح الولاءات المحلية بمنح مصالح ومزايا، تتصاعد إلى شقاقات وشروخ داخل القرية والمديرية والمنطقة، ويتم استقطابات المجاميع الأخرى من قبل الأحزاب ومن قبل خصوم الرئيس صالح.
ڤيروس “البوتقات”
ويتجمع الموالون للرئيس صالح من كل منطقة معا ويتصادقون ويتحالفون ويقول الرئيس صالح أنه منتشر في كل اليمن وأن أتباعه هم “بوتقة” تنصهر بداخلها اليمن.
ويقوم الآخرون، بعمل عشرات من “البوتقات” الأخرى لتتصدى لتعاظم “بوتقة” الرئيس صالح تحت رايات الوطنية والقومية والإسلامية.
لا ندري على ماذا يختلف اليمنيون على مستوى القرى والمناطق، سوى بالإصابة بڤيروس “البوتقات”.
لم يعد أحد يعرف على ماذا يختلف اليمنيون، سوى على نصيبهم من النفوذ والفلوس داخل “بوتقة” ما.
حتى أصبح الانتماء إلى “بوتقة” هو طريق المنصب والمصلحة، لا الكفاءة ولا الجدارة.
حمود المخلافي والمقاومة
حمود المخلافي، هو الذي ابتدأ المقاومة في تعز في مارس ٢٠١٦ عند ابتدأ عاصفة الحزم بمساعدة السعودية.
ثم حدث اختلاف بينه وبين الإمارات.
ثم تم إخراجه من تعز في ٢٠١٦ ، مع وعد من التحالف السعودي/الإماراتي بتحرير تعز إذا غادر البلاد.
غادر المخلافي، ولم تتحرر تعز.
بل تمزقت أكثر، حين اقتُطع ميناء المخا وشواطئ المحافظة من جسدها
يتنقل حمود المخلافي، الآن، بين تركيا وقطر وسلطنة عمان.
معظم نشاطه الآن يتركز على الأعمال الخيرية.
يعتقد أن التمويل يأتي من دولة قطر.
السعودية وحمود المخلافي
يوجد تصريح للسفير السعودي آل جابر، في ٢٠١٧، بأن مجموع ما تسلمه حمود المخلافي لقيادة عملية تحرير تعز يبلغ ٤٠٠ مليون دولار .
كل النقد الذي يوجه لحمود المخلافي يتركز على أن النتائج من هذه المبالغ في عملية التحرير لم تكن كافية.
حزب الإصلاح وحمود المخلافي
قبل أن يشتهر حمود المخلافي- قبل عشرات السنوات- كان مرتبطا بحزب الإصلاح.
اشتهر بعد ذلك بمعارضة الرئيس صالح أكثر من شهرته كعقائدي في حزب الإصلاح الإسلامي.
عند قيادته للمقاومة في تعز في ٢٠١٥ بعد شن عاصفة الحزم السعودية، انضمت عناصر حزب الإصلاح إلى مجهوده وأزاحته بالتدريج حتى اختفى دوره في المقاومة خصوصا بعد إخراجه من تعز في ٢٠١٦.
داخل تعز، هناك ناس يحبون حمود المخلافي ويعتبرونه رمزا للكرامة والمقاومة.
وهناك ناس يكنون له أشد العداء وجزء من هذا العداء مرحل من عدائهم لحزب الإصلاح أو موالاتهم للرئيس صالح.
الإمارات وأبو العباس وحمود المخلافي
الإمارات كانت تؤيد أبو العباس— قائد السلفيين— داخل تعز وتريده أن يكون قائد عملية التحرير وليس حمود المخلافي.
السعودية، أيضا ابتدأت تعطي بعض الدعم لأبو العباس.
“المودرن” و “المتزمت” و “المعتدل” وحرب شوارع
بعد خروج حمود المخلافي من تعز، انتقل العداء بين أبو العباس وحمود المخلافي إلى عداء بين أبو العباس وحزب الإصلاح بقيادة سالم فرحان.
دارت حرب شوارع مريرة بين حزب الإصلاح وأبو العباس، انتهت بإخراج أبو العباس من مدينة تعز بمجهود كبير من دولة الإمارات ووساطة وكيل المحافظة من حزب المؤتمر عارف جامل ووصول قافلة سيارات إسعاف تابعة للإمارات قدمت من عدن لإنقاذهم وإخراجهم من المدينة.
نحتاج هنا أن نذكر بأن دولة الإمارات الحداثية و “المودرن”، كانت تدعم عسكريا السلفيين المتزمتين بقيادة أبو العباس ضد حزب الإصلاح الإسلامي المعتدل بقيادة سالم فرحان.
وكانت هناك قوى “حداثية” حزبية تعزية، تؤيد السلفيين المتزمتين وأبو العباس ضد حزب الإصلاح وضد سالم.
كيف يمكن أن نفهم؟
فهم ما كان يدور، على أساس من المنطق والمبادئ، مستحيل.
فهم ما كان يدور، على أساس الولاءات والخليج والفلوس والنفوذ، سهل.
حمود الصوفي وافتهان المشهري
اغتيال مديرة مشروع النظافة وتحسين المدينة في تعز، صدم الرأي العام في تعز بدرجة غير مسبوقة.
وعبر حمود الصوفي عن صدمته بالشعر والمقالات الأدبية المؤثرة مبديا انفعاله بما حدث للفقيدة ولما يحدث للمدينة الجريحة على أيدي البلاطجة.
ونحن هنا لا نرفع من مواهب الشعر والبلاغة ولا نشكك في صدق مشاعره.
يمكن فقط أن نذكر القارئ هنا أن هؤلاء البلاطجة إنما هم من نفس منطقته ويقربون لخصمه اللدود الذي يحمل نفس الإسم.
وأن حمود الصوفي يوالي أسرة الرئيس صالح ودولة الإمارات.
وأن حمود المخلافي يعادي أسرة الرئيس صالح ويوالي دولة قطر الخليجية.
يحبون الخليج.. ولكن
هنا يجب أن نذكر أيضا أن اليمنيين عندما يتنابذون فإنهم يعايرون بعضهم البعض بأنهم إنما يتبعون تلك الدولة الخليجية أو غريمتها الأخرى، بالرغم من أنهم في نفس الوقت يتمنون لو يحصلوا على نفس الحظوة ويصبحون هم موالون أيضا لهذه أو تلك.
استخلاص العبر من الحمودين وافتهان المشهري
اغتيال افتهان المشهري، هيج أعشاش الزنابير الكامنة في تعز.
وأطلق المشاعر المكبوتة لتزعق بجانب صراخ المماحكات الذي يعلو ويخبو طول الوقت.
وأطلق المواهب الشعرية والأدبية عند “زعماء” المدينة.
وأطلق إسمها على دفعة من الخريجين.
وسمح لنا بعمل مسح عام للصراعات بين اليمنيين بطول البلاد وعرضها التي الكثير منها يبدأ برقصة ثعابين ويتطور ليصبح صراعات على المبادئ والدين، ثم إلى صراع بين الأصالة والمعاصرة، ثم إلى صراع بين “المودرن” و “المتزمت” و “المعتدل”، ثم يصل إلى القمة ليصبح صراعا بين دول الخليج داخل اليمن.
فكرة المقالة
الفكرة المحورية في مقال اليوم هي تسليط الضوء على الانقسامات السياسية والاجتماعية في تعز واليمن عبر نموذج شخصيتين مركزيتين: حمود المخلافي وحمـود الصوفي، مع ربط الأحداث المحلية بالتحالفات الخليجية والولاءات الداخلية.
اليمن يعاني من شبكة معقدة من الولاءات العائلية، المحلية، الحزبية، والإقليمية والدولية
حاولنا اليوم، تحليل طريقة عمل النظام اليمني التاريخي، والانقسامات المحلية، وتأثير القوى الإقليمية
المعارك الحقيقية الوحيدة لليمن
١- معركة الحكم الرشيد
٢- معركة التنمية
وهذا لن يتم إلا بإنقاذ اليمن من الحوثيين والانفصاليين والكانتونات.
وإذا أراد السعوديون والإماراتيون والقطريون مساعدتنا، فأهلا وسهلا بهم في هاتين المعركتين الحقيقيتين الوحيدتين لليمن.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news